هل ينتقل الاكتئاب عبر الأجيال؟
د. لطفي عبدالعزيز الشربيني.
شهدت الفترة الأخيرة مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين أعدادا متزايدة من حالات الاكتئاب ، حيث انتشر هذا المرض بصورة وبائية في كل مجتمعات العالم ، ولم يسلم من الإصابة به الرجال والنساء والأطفال والشباب والشيوخ ، ولعل ذلك هو الدافع إلى وصف هذا العصر بأنه عصر الاكتئاب .
وهناك دليل آخر على أن العالم اليوم يعيش عصر الاكتئاب ، وهو ما ورد في إحصائيات منظمة الصحة العالمية حول عدد الأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب: 450 مليون بنسبة 7% من الناس..والذين يقدمون على الانتحار كل عام ، ويصل هذا الرقم 800الى مليون شخص في العالم سنوياً ، وهناك ما يدفع على الاعتقاد بأن انتشار الاكتئاب يفوق كثيراً كل الأرقام التي تذكرها الجهات الصحية المختلفة ، فهناك حقيقة ثابتة بأن مقابل كل حالة حادة أو متوسطة من الاكتئاب يتم تشخيصها والتعرف عليها يوجد العديد من الحالات الأخرى تظل مجهولة لا يعلم عنها احد شيئاً ، وقد ثبت ذلك من خلال دراسات ميدانية أكد بعضها أن ما يقرب من 80% من مرضي الاكتئاب لا يذهبون إلى الأطباء ، ولا يتم اكتشاف حالتهم رغم معاناتهم من حالة الاكتئاب .
إن الإصابة بالاكتئاب بالنسبة لأي إنسان هي مسألة لها جذور وعوامل قد تكون بدايتها منذ بداية عهده بالحياة وعادة ما يكون هناك تراكم لعدد من الأسباب والعوامل تجمعت معاً لتؤدى في النهاية للإصابة بالاكتئاب وقد تكون هذه العوامل في الشخص نفسه أو تكون نتيجة لتأثره بالبيئة المحيطة به ونعني بها الأسرة والمجتمع وهنا نحاول الإجابة على السؤال : ما هي الأسباب وراء الإصابة بالاكتئاب ؟
أسباب متعدد للاكتئاب:
ويخطئ كثيراً من يتصور أن العلم الحديث-رغم ما أحرزه من تطور هائل-قد وضع يده على كل الحقائق التي تتعلق بحالة الصحة والمرض النفسي،أو انه قد توصل إلى معرفة دقيقة لمسببات الاضطرابات النفسية عامة والاكتئاب النفسي بصفة خاصة،وذلك على الرغم من استمرار محاولات البحث الجاد في هذا المجال،ودراسة كل ما يمت إليه بصله،غير أن المحصلة في النهاية لم تتعد مجموعة من النظريات والافتراضات يتحدث البعض فيها عن أسباب نفسية للاكتئاب،بينما يعزو البعض الآخر هذه الظاهرة إلى عوامل وراثية وبيئية واجتماعية،ويتجه المستحدث من هذه النظريات إلى التركيز على العوامل البيولوجية والكيميائية،ورغم أن كل هذه الافتراضات لها حيثياتها،ويعزز معظمها الدراسة والتجريب إلا انه ليس من اليسير التأكيد على مصداقية أو خطأ أي منها.
ونحن بذلك لم نصل فيما أتصور – إلى نقطة ينتفي الاختلاف واللي قواعد عامة متفق عليها يمكن أن تنطبق في كل الحالات أو على الأقل في معظمها ، ولعلي بذلك قد مهدت إلى نقطة هامة أريد تأكيدها ، تلك أن كل حالة لفرد واحد من حالات الاكتئاب النفسي هي موضوع مستقل بذاته ، ووضع لا ينطبق عليه ما يصدق على الآخرين ، وبعبارة أخرى فإن كل حالة ينبغي أن ننظر إليها على أنها إنسان يتألم لأسبابه الخاصة ، وبطريقته وأسلوبه المتميز ، لان البشر لا يتشابهون فيما بينهم حتى في حالة الصحة النفسية ، فكيف يكون الحال في حالة المرض النفسي ؟
وإذا كانت النظريات قد تعددت ، والآراء قد اختلفت حول السبب المباشر لحالة الاكتئاب التي تنتشر في عالم اليوم فإن هناك حقيقة تظل شبه مؤكدة وهي تداخل الأسباب وتعددها وأكثر من ذلك تفاعلها مع بعضها البعض حيث يكون من العسير تحديد سبب محدد لكل حالة أو الفصل بين أسباب متعددة .
الاكتئاب والشخصية :
والبداية الصحيحة لمحاولة فهم الأسباب والعوامل التي تؤدى إلى الاكتئاب النفسي ينبغي أن تبدأ من دراسة شخصية الإنسان ، ومحاولة فهمها من حيث تكوينها وخصائصها في حالة الصحة النفسية وقبل بداية رحلتها مع الاضطراب النفسي ، وإذا تتبعنا الطريق من بدايته نجد أن شخصية الإنسان هي محصلة لمؤثرات خارجية متعددة وصلت إليه بالمعرفة والإدراك لما يحيط به ، إضافة إلى غرائز وانفعالات فطرية تكمن في داخله ، ومن التفاعل بين ذلك كله ينشأ السلوك الإنساني وهو الجزء الذي يراه الآخرون ، ويعرف به ذلك الفرد بين الناس ، ولعلي اذكر هنا بأن المقابل في الانجليزية لكلمة الشخصية قد اشتق من اصل قديم يعني القناع وهذا يعني أن ما يظهر من الإنسان لمن حوله ليس سوى قناع تختفي خلفه أشياء شتي .
وشخصية الإنسان العادي – بحكم تكوينها الفطري – تدرك وتتحسس المشاعر المختلفة ومنها شعور اللذة(أي السعادة)،والألم(أو الكآبة)،وهما يقفان على طرفي نقيض مثل المحور الذي تنتقل بين طرفيه مشاعر كل منا في حياته النفسية الطبيعية،ولكن بعض الناس يغلب عليهم طابع التقلب بين هذه المشاعر من حزن وفرح بصورة مبالغ فيها،وقد لوحظ في مرضي الاكتئاب عند التقصي عن حالتهم قبل المرض أن شخصيتهم كانت تتصف بأنها من النوع الاجتماعي الذي يغلب عليه تقلب المزاج من المرح والتفاؤل والنشاط وحب الحياة،إلى المزاج العكسي من الكسل والتشاؤم والحزن،كما يقال أن هؤلاء يتميزون بطيبة القلب وخفة الظل،غير أنهم مع ذلك لا يتحملون التعرض للمشكلات،وينظر الواحد منهم إلى ذاته نظرة دونية ، ولا يتوقع خيراً بل يتوقع الهزيمة دائماً .
مظهر الجسم والاكتئاب :
ومما لوحظ في معظم مرضي الاكتئاب والاضطرابات الوجدانية عموماً،ما يتميزون من تكوين جسمي مميز يطلق عليه التكوين ” المكتنز ” ، ومن خصائصه الميل إلى الامتلاء،وقصر القامة،واستدارة الوجه،وذلك مقارنة بأنواع أخرى من البنية أو التكوين مثل النوع النحيف الذي يرتبط في الغالب بالفصام العقلي ، والنوع الرياضي ويتعرض للاضطرابات نفسية أخرى مختلفة،ورغم أن هذه ليست قواعد ثابتة إلا أن هذا الارتباط موجود في معظم الأحيان وهذا عرض لهذه التكوينات المختلفة :
1. التركيب المكتنز ( البدين ) : قصير ، غليظ ، ممتلئ ، مستدير
– ” أكثر تعرضاً للاكتئاب “
2. التركيب النحيف : طويل ، رفيع ، نحيف
– ” أكثر إصابة بالفصام والقلق “
3. التركيب الرياضي : متوسط الطول ، متناسق ، مفتول العضلات
– ” قد يصاب باضطراب الشخصية “
يحاول كل من يتعرض لحالة الاكتئاب النفسي أن يجد سبباً واضحاً للحالة بشكل مباشر ، فإذا فرض أن أعراض الاكتئاب بدأت بعد حدوث واقعة معينة مثل وفاة احد الأعزاء أو مشكلة عاطفية أو خسارة مالية ، فإننا في هذه الحالة نقول أن هذا الحدث هو السبب المباشر في حدوث الاكتئاب ، لكن هناك الكثير من الناس يتعرضون لنفس المواقف ولا يصابون بالاكتئاب، وعلي ذلك فإننا يجب أن نحاول في كل حالة من حالات الاكتئاب تحديد السبب الحقيقي لحدوث هذه الحالة قد ثبت من خلال الدراسات النفسية أن هناك عامل وراثي قوى وراء الإصابة بحالات الاكتئاب ، وحتى إذا ظهر المرض بعد التعرض لمشكلة معينة فإن وجود استعداد مسبق لدى المريض هو في الغالب السبب الأساسي لإصابته بالاكتئاب لذلك نقول أن الاكتئاب لن يكن سوى حلقة أخيرة في سلسلة تفاعلات أدت في النهاية إلى صورة الاكتئاب المعروف .
دور الوراثة في مرض الاكتئاب :
لعل أول ما يلفت الانتباه هو انتقال الاكتئاب عبر الأجيال ، وهذا ما نلاحظه عند دراسة الأسر التي تتميز بوجود حالات متعددة لمرضي الاكتئاب ، ومن خلال الدراسات النفسية فقد تبين زيادة نسبة الاكتئاب في أقارب الدرجة الأولى للمرضى تؤكد الدراسات أن عدد الأفراد الذين يعانون من الاكتئاب في أسرة المريض يزيد بمقدار 3 أضعاف عن الأسر العادية ، وهذا يؤكد العامل الوراثي في مرض الاكتئاب ، ويلاحظ أيضا وجود ارتباط بين الاكتئاب وبعض الاضطرابات النفسية الأخرى مثل الشخصية الاكتئابية التي لديها استعداد وراثي للإصابة بالاكتئاب كما أن هناك علاقة بين الاكتئاب وأمراض نفسية أخرى مثل الفصام ، والصرع ، والإدمان والتخلف العقلي ، وفي هذا المجال يجب أن نتذكر أن الأطباء النفسيين حين يقومون بفحص حالات الاكتئاب لابد أن يجمعوا المعلومات حول الوالدين والأجداد والإخوة والأخوات والأبناء وكل أقارب المريض .
ويتم توجيه السؤال للمريض بطريقة بسيطة حتى نتأكد من فهم المريض لما نقصد بأن نقول :-
هل أصيب احد أفراد أسرتك بالحزن الشديد وكثرة البكاء ؟
أو هل يوجد في أقاربك شخص عنده مشكلات تشبه وضعك الحالي ؟
أو هل تم علاج احد أقاربك لدى دكتور نفساني أو في إحدى المستشفيات النفسية ؟
ومن خلال إجابة المريض على مثل هذه الأسئلة يمكن لنا التعرف على وجود تاريخ مرضي في الأسرة أو وجود عامل وراثي في إصابة المريض بهذه الحالة.
هل ينتقل الاكتئاب عبر الأجيال ؟
قد شغل هذا السؤال علماء النفس ، وقد حاولوا الإجابة على مسألة انتقال مرض الاكتئاب بالوراثة عبر الأجيال ، ومن خلال الدراسات التي أجريت على التوائم الذين يعيشون معاً ، أو ينفصل احدهم ليعيش في مكان بعيد عن الآخر تبين أن الاستعداد الوراثي للاكتئاب يوجد لدى التوائم بغض النظر عن الظروف المحيطة بهم مما يؤكد وجود عامل وراثي قوى يؤدى إلى انتقال الاكتئاب بالوراثة عبر الأجيال .
وفي أبحاث أخرى تم تناول الصفات الوراثية ، وطريقة انتقالها من الأبوين إلى الأبناء أو من جيل إلى آخر ، وتم دراسة ” الجينات ” وهي المورثات التي تحتوى على شفرات بها معلومات دقيقة تفصيلية بكل الصفات الجسدية والنفسية يتم انتقالها من جيل إلى آخر ، ولابد أن نعلم أن هذه المسألة بالغة التعقيد ، وتنجلي فيها قدرة الخالق سبحانه وتعالي ، ولم يصل العلم بعد إلى كل أسرارها لكننا من الناحية العملية يمكن لنا الاستفادة من هذه المعلومات في التنبؤ في حدوث حالات الاكتئاب ، والتخطيط للوقاية منه ولقد قطع العلم شوطاً كبيراً في كشف عملية انتقال مرض الاكتئاب وراثياً ، وتم تحديد تفاصيل هذا الانتقال من خلال علم الوراثة ، ودراسة الجينات ، والكرموسومات التي يتم من خلالها انتقال هذا المرض عبر الأجيال .
دراسات أخرى حول انتقال الاكتئاب بالوراثة :
هناك من الناحية العملية الكثير من الأسئلة يتم توجيهها إلى الأطباء النفسيين ، وتتطلب الإجابة عليها بشكل واضح ومفهوم بالنسبة للمريض وأهله ، ومن أمثلة هذه الأسئلة التي تصادفنا في ممارسة الطب النفسي ويصعب علينا الإجابة عليها بطريقة علمية السؤال الذي يتوجه به بعض الراغبين في الزواج حول إمكانية انتقال مرض الاكتئاب إلى الأبناء في المستقبل واذكر هنا حالة فتاة توجهت إلى بالسؤال التالي :-
خطيبي يعاني من حالة اكتئاب نفسي هل أقدم على الزواج منه ؟
وسؤال آخر وجهته لي إحدى السيدات المتزوجات حديثاً حيث تقول :-
زوجي تم علاجه من حالة الاكتئاب وتحسنت حالته الآن فهل يمكن أن يصاب أطفالنا بالاكتئاب ؟
وزوج يسأل :-
والدة زوجتي أقدمت على الانتحار بعد إصابتها بمرض الاكتئاب فهل هناك احتمال بأن تصاب زوجتي بهذا المرض ؟
والواقع أن الإجابة على مثل هذه الأسئلة ليست بالأمر السهل خصوصاً أن المعلومات أو الكلمات التي سوف يتحدث بها الطبيب النفسي إلى مرضاه يتضمن قدراً كبيراً من المسئولية عن تغيير حياتهم ، وقد تدفعهم إلى اتخاذ قرارات مصيرية تؤثر على مستقبلهم ، ومن خلال الدراسات النفسية فإن حتى يومنا هذا لا يوجد اختبار معين يمكن من خلاله التنبؤ إذا ما كان المريض النفسي الذي يعاني من الاكتئاب سوف ينجب أطفالا مصابين بنفس المرض .
في إحدى الدراسات العلمية التي تم إجرائها بأسلوب الاستبيان بتوجيه أسئلة معينة تم اختيار مجموعة من مرضي الاكتئاب من الرجال وتوجيه سؤال إلى كل منهم والي زوجة كل منهم هذا نصه:-
لو إنك كنت تعلم عن حالتك ما تعرفه الآن هل كنت ستقدم على الزواج؟
والنتيجة أن 9 من كل 10 من مرضي الاكتئاب كانت إجابتهم نعم بينما كانت إجابة زوجات مرضي الاكتئاب في نسبة تزيد على 50% منهم: لا….. ومن الظواهر الطريفة التي تأكد وجودها من خلال الدراسات أن مرضي الاكتئاب يميل بعضهم إلى بعض عند الاختيار للزواج حيث يصدق المثل المعرف: ” الطيور على أشكالها تقع “…… أي أن مريض الاكتئاب يميل إلى من تتشابه معه في الصفات لتكون شريكة لحياته وهذا يزيد من فرص إصابة الأبناء بالاكتئاب أيضا ، ولا زال هناك الكثير أمام علماء الطب والوراثة ليتم كشف أسرار العوامل الوراثية في مرض الاكتئاب النفسي .