الجمعة 20 سبتمبر 2024 / 17-ربيع الأول-1446

نزف المستشار .



من يفتح على حياته نافذة يسمح من خلالها بدخول تيارات الهواء الساخنة، والباردة، والملبدة بالغبار، والمحملة بالروائح، والمعجونة بالدخان، هو ذاك الذي حُبِّب إليه أن يكون مستشارا اجتماعيا، تداهمه طرقات الملهوفين، واتصالات المكروبين، وإحراجات الخواص، كل يوم يتلقى خمسين استشارة، خمسين بوحا، خمسين آهة، خمسين خدشا .. جرحا .. طعنة ..

المتغيرات الاجتماعية، والتقنية، شكلت طوفانا .. زلزالا .. فيضانا .. جعلت الأسر تضطرب، ثم تتضارب، ثم تُضرب في الصميم، فانتعش سوق الطلاق، وخفتت بسمات التسامح، وتزلزلت أقدام طالما كانت صلبة الخطوات، نافذة النظرات.

كل يوم يطلع على جزيرة جديدة من جزر النفوس البشرية ليس لها نظير من قبل، قد يراها مكتظة، لكن بالغمائم السود، التي تُخشى إن أمطرت، وتُخشى إن أمسكت. وقد يراها ردهات واسعة، لكنها خالية، تلعب في جنباتها الرياح العابثة، وقد يراها مخضرة، وحين يفحصها يجدها قد أصبحت مشتلا للحشائش الضارة، التي لا تُرجى إن أثمرت، ولا تُؤمن إن تمددت.

النزيف الذي ينهمر أمامه .. يحفر في داخله أخاديد تتمددُ بقدر ما تتمدد شرايين قلبه في جسده، حتى أصبحت تلون أنفاسه، وتعلق بثيابه، وتتواكب مع هدير صخب الرعود التي تتفجر في أذنيه، وهو يستمع، ويستمع، ويكتم ويكتم، ويطوي كل ما يتلقاه في سجلات عالمه الداخلي، احتراما لمهنيته، ووقوفا عند مسؤوليته، وحماية لأسرار مرتادي حياضه الدافئة الحانية.

لا يعرف صاحب الحاجة وقتا مناسبا، ولا يعذره إذا اعتذر، وربما غضب منه إذا اختصر، وليس بعيدا أن يتلقى منه رسالة تحمل كل تراكمات حسراته ليزيحها إلى من قال له: أنا مشغول بغيرك؛ فاعذرني.

يتذكر جيدا كل وصايا المختصين الذين لقنوه أن يبتعد بذاته وحياته وأسرته عن أتون تلك الحرائق، ولا يسمح لنفسه يوما ما بأن تكون وقودا لأفران المشكلات المزمنة، وأن يكتفي بالتلقي الهادئ، والتعاطف المؤقت؛ ليكون همه تشخيص الحالة بمهنية عالية، العقل فيها والعلم هما أصحاب الريادة والسبق والأولية، لذا فهو يبحث في السجلات الرسمية، وفي السيرة الذاتية، وفي العلاقات الأسرية، وفي التاريخ العميق الذي يبدأ برحلة الإنسان من طفولته إلى المرحلة التي يعيشها، ثم يأخذ بمنهج من مناهج التفسير والتحليل النفسي، أو مدرسة من مدارس الإرشاد، ليرسم برنامجا علاجيا مكينا، يتعدى التعامل السطحي مع المشكلة، والتفاعل العاطفي، والتوصيات المرتجلة، ليكون له أثر لا يمحى في التحول لدى المستشير، الذي قد يكون غارقا في مشكلته، حتى سدت عليه الآفاق الستة.
ومن المهم ـ خلال هذه الرحلة المهنية وبعدها ـ أن يبذل جهدا آخر، ليمسح تلك الآثار السلبية التي ستبدو على نفسه كما تبدو البثور على الجلد الحسن.

نعم عليه أن يتناسى المشكلة، ولا يصدرها إلى أهله، ولا يستعيد ذكراها كل فترة، أقول هذا وأنا أعلم بأن ذلك ليس سهلا وهو يرى بيتا ينهار، وعرضا يهدد، وطفلا يُعنف، وامرأة تُذلُّ إنسانيتها من أجل رجل لا يستحق حتى النظر في وجهه، ورجلا قد جُرحت شهامته، فصار يبكي كالأطفال.

وقد رأى من ابنته ما يكره، أعلم بأنه سيشق عليه أن تتجافى روحه عن أحاسيس علقت بمشاعره وأجفانه وهو يقاومها بكل قوة، خلال تقليب صفحات النفوس المتعبة والأرواح المعذبة، ولكن لا بد له من ذلك .. ليعيش من أجل كل هؤلاء، ومن أجل نفسه أيضا ومن يعول، وليبقى روحا ندية تطل بريحانها العبق على كل روح جفت أفنانها.

 

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم