بقلم د.عادل هندي
صلاح الأبناء وإعدادهم كأبطال مهمةٌ شاقة بكل تأكيد، لكنَّها سهلة ميسورة على من استعان بالله ثم أخذ بالأسباب.
ولقد كان لنبينا المصطفى ورسولنا المجتبى طريقتُه المتميزة في الإعداد، والتهيئة، والتربية للأبناء وإعداد الأبطال؛ وقد اختلفت طرقها، ووسائلها، وأساليبها على نحو تعجز الألسن عن وصفه، وتعجز الأقلام عن صياغته وكتابته، ولا تستطيع معه الأفكار إلَّا أنْ تطأطئ رأسها لرسول المحبة والسلام.
ولا يجوز لنا، إذن، أنْ نتحدث عن مهاراتٍ- أيًّا كان شأنها ووضعها- قبل أنْ نتحدث عن وسائله ومهاراته- صلى الله عليه وسلم- في التواصل والتربية للأبناء.
وإليك هذه الأنواع في التربية بنماذجها وشواهدها، على النحو التالي:
أولًا: التربية العقدية .
لقد كان رسولُنا وحبيبنا محمد- صلى الله عليه وسلم- أفضلَ الناس عقيدةً وشريعة وخلقًا، ومن ثَمَّ فقد أثمرت تربيته العقدية شخصياتٍ فذة، قوية، فتية، تتقوَّى بعقيدتها أمام البلايا، وتصبر وتثبت أمام الرزايا، حتى سمعنا عن:
1) جعفر بن أبي طالب وهو يتحدث أمام النجاشي- الملك العادل في أرض الحبشة- وأمام المشركين الوافدين من مكَّة؛ ويريدون أنْ يأسروا المسلمين وهم في الحبشة؛ فوقف- بعقيدته يتحدث، وليس بلسانه- فقال: “كنَّا… وكنا… حتى أرسل الله إلينا رسوله…” وبلَّغ الإسلام وكان سببًا في إسلام النجاشي فيما بعد.
2) رِبْعي بن عامر- المتحدث الرسمي باسم المسلمين- وهو أمام رستم قائد الفرس، يرفع رأسه عزةً وفخرًا، ويشق الستائر والفُرُش بسيفه الصغير بين يدي رستم؛ وما كان ذلك إلَّا لعقيدة ثابتة وقوية.
ولا شكَّ أنَّ النماذج كثيرة ومتعددة، بينما أضرب لك هنا الآن نموذجًا على تربية الرسول العقدية للأبناء، ومثالنا في ذلك: موقفه- صلى الله عليه وسلم- مع ابن عباس، رضي الله عنهما، كما يحكي ابن عباس بنفسه- “كما عند الترمذي، وقال عنه: حديث حسن صحيح”- فيقول: “كنتُ خلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يومًا، فقال: “يا غلام، إنِّي أعلمك كلماتٍ، احفظ الله يحفظْك، احفظ الله تجدْه تجاهك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله، واعلم أنَّ الأمة لو اجتمعت على أنْ ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلَّا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أنْ يضروك بشيء لم يضروك إلَّا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف”.
هذا رسول الله، يبذل للابن النصيحة، ويقعِّد له حياته القادمة منذ الصغر.
وتلكم تربية عقدية، لم تَرَ الدنيا مثلها، ولك أنْ تتخيل: ابن يربَّى بهذه الصورة، هل يخشى ظالِمًا؟ أو يخاف على رِزْقٍ يظن الخلق أنَّه بيد المخلوق؟.
– فأين نحن من هذه التربية؟.
– وأين أبناؤنا من ثمارها اليانعة؟.
– وأين إنتاج العقيدة في مجتمعاتنا؟.
– وأين من آبائنا من يربِّي في أبنائه هذه المعاني الجميلة؟.
ثانيًا: التربية التعبدية .
لايزال منهج الحبيب بيننا نترنم بأحداثه وأحاديثه؛ حيث تأتي هذه التربية لاحقة للتربية الإيمانية والعقدية؛ لتبين لنا مهارته- صلى الله عليه وسلم- في إعداد وتنشئة جيلٍ عابد لله، ومطيع لمولاه، ويخطو خطواته بعبودية خالقه، مرفوعَ الرأس، عزيز النفس، كريم الفؤاد.
هذا نبينا- صلى الله عليه وسلم- يدخل عليه عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- وهو في بيت أخته “حفصة”، فيسأل: مَنْ بالدار؟ فتقول: ابن عمر. وأراد النبي- صلى الله عليه وسلم- أنْ يربيه على حبِّ التعبد، ومازال غلامًا، وإليك القصة بأكملها؛ لترى كيف كانت التربية بالتحفيز والتشجيع والدَّفْع نحو الهمة العالية، بعكس كثير ممن يربون أبناءهم على همة سافلة في الثرى لا في الثريا- كما كان الكرام الأوائل.
فهذا “سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب” يحكي عن أبيه ابن عمر، فيقول: قال أبي: كان الرجل في حياة النبي- صلى الله عليه وسلم- إذا رأى رؤيا قصَّها على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؛ فتمنيت أنْ أرى رؤيا فأقصها على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكنت غلامًا شابًّا، وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فرأيت في النوم كأنَّ مَلَكَيْن أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان وإذا فيها أناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، قال: فلقينا مَلَك آخر، فقال لي: لَمْ ترع، فقصصتها على حفصةَ فقصتها حفصةُ على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فقال الرسول: “نِعْمَ الرجل عبد الله، لو كان يصلي من الليل”، يقول سالم: “فكان بعدُ لا ينام من الليل إلَّا قليلًا”.
وقد ذكرت القصة بأكملها- كما رواها البخاري في صحيحه- وذكرت اسمَ ولد ابن عبد الله بن عمر؛ ليستبين لك الآتي:
– كيف ربَّى رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم- ابنَ عمر بالتحفيز التعبدي؟.
– كيف ذكر ابنُ عمر لابنه هذه القصة وحكاها عنه؛ ليُعَوِّد ولدَه كذلك على القيمة التعبدية التي تربَّى عليها.
– معرفة النبي-صلى الله عليه وسلم- بطبيعة ابن عمر، كغلام صغير، ومعرفة نفسيته؛ فدعاه إلى ما يتحمله ويتقوَّى به.
ونحن يا إخواني:
في حاجة إلى أنْ نتعلم هذا الدرس جيدًا لأنفسنا ثم نعلمه لأبنائنا؛ ليخرج جيل الأبناء جيلًا يقوم بحق ربِّه عليه، ويحفظ الله فيما أمر ونهى؛ فإنَّ من حفِظَ اللهَ حفظَهُ اللهُ.
ثالثًا: التربية العِلْمية .
الإسلام رسالة: “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ”، ودين: “فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ”، ومنهج: “يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ”.
ولهذه التوجيهات مجتمعة كان رسول الله حريصًا على العلم والتعلم، ويشجع عليه ويرغب فيه بنماذج قولية وعملية وتطبيقية، لاسيما في تربيته للنشء القادم، وللزهور اليانعة في بيوت المسلمين، من أبناء وبنات المسلمين.
– أم المؤمنين حفصة- زوجُه صلى الله عليه وسلم- كانت لها معلمة وهى صغيرة في بيت أبيها؛ فآثر أنْ تكمل معها رحلة العلم وهي في بيت الزوجية.
– أسرى المشركين فداؤهم يكون بتعليم 10 من المسلمين القراءة والكتابة.
– وهذا نموذج تربوي للآباء في التربية العلمية؛ إمَّا بمساعدة في طلب العلم، أو دعاء بالتوفيق في طلبه والسداد والنجاح في طريقه، إنَّه نموذج قام به الرسول مع ابن عمه وحبيبه ابن عباس- حبر الأمة- يدعو رسول الله لابن عباس: “اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل”.
ونستفيد من المثال السابق ما يأتي:
– الاهتمام بالأبناء في تحصيل العلم والثقافة والمعرفة.
– حكمة الرسول في دعوة ابن عباس للعلم، ومعرفته بطبيعته وحنكته وفطانته؛ مما يؤهله ليكون حاملًا للعلم والدين.
– تحفيز الرسول بالكلمة الطيبة، وهي بمثابة مكافأة معنوية لابن عباس تجعله يتشجع على تلقي العلم.
– وإن تعجب فعجب أنْ تعلم: أنَّ ابن عباس جمع الْمُحْكَم وهو ابن عشر سنين على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم.
ونتعلم مما سبق: أنْ نحرص على تربية أبنائنا تربية علمية تجعلهم قادرين على التعامل مع الحياة بخبرة الشهادة وبخبرة الحياة؛ فلا تفيد الشهادة العلمية والثقافية وحدها ما لم ترفق بشهادة الخبرة الحياتية من الأبوين.
وكم من متخرج في جامعة الحياة عاش حياة كريمة أفضل ممن حمل شهادة ماجستير ودكتوراة، ولا يعني ذلك- أبدًا- التقليل من حجم تلك الشهادات؛ ولكنها دعوة للحرص على تحصيل الاثنين معًا.