بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
سبقت كلمة الله التي لا مرد لها ولا مخالف أَنَّ عباده المدافعين عن الحق هم الغالبون لغيرهم، المنصورون من ربهم نصرا عزيزا، يتمكنون فيه من إقامة دينهم، إِلَّا أَنَّهُ سبحانه قَدَّرَ مِحَنًا وابتلاء، ليظهر علمه في الناس، فيجازيهم بما ظهر منهم في عالم الشهادة، لا بما يعلمه سبحانه في عالم الغيب، لأنهم قد يحتجون على الله بأنهم لو ابتُلُوا لَثَبَتُوا ، فلذلك قال سبحانة { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} سورة محمد (31). قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:” حَتَّى نَعْلَمَ أي: حَتَّى نُمَيِّزَ، وقد صدق رضي الله عنه، فالابتلاء بالسراء والضراء، وبالنعماء والبأساء، وبالسعة والضيق، وبالفرج والكرب.. كلها مواقف وحالات تكشف عما هو مخبوء من معادن النفوس، وما هو مجهول من أمرها حتى لأصحابها، فالفتن كاشفة كما يقول الحكماء ،
و مما لا شك فيه أَنَّ الكارهين للاسلام الحاقدين على أهله مهما كتموا حقدهم وأخفوا كرههم فإِنَّ الله مُطْلِع أهل الحق على بعضه، قال تعالى : (أَمْ حَسِبَ الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم) سورة محمد (29): والْأَضْغَانُ: جَمْعُ ضِغْنٍ، وهو ما في النفوس من الحسد والحقد للإسلام وأهله والقائمين بِنَصْرِهِ. والمعنى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ من شبهة أو شهوة – بحيث تُخْرِجُ الْقَلْبَ عن فطرته واعتداله- أنَّ الله لا يخرج ما في قلوبهم من الأضغان والعداوة للإسلام وأهله و أنَّ الله لا يكشف أمرهم لأهل الحق ويبرز أحقادهم وعداواتهم؟! وهذا ظن لا يليق بحكمة الله عالم الغيب والشهادة الذي يعلم السر وأخفى ، بل سيوضح أمرهم ويفضح شأنهم حتى يفهمهم ذوو البصائر، فَإِنَّهُ ما أَسَرَّ عَبْدٌ سَرِيرَةً إِلَّا أَبْدَاهَا اللَّهُ عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ، وما أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إِلَّا كَسَاهُ اللَّهُ رِدَاءَهَا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ.
ومهما مكر هؤلاء في معاندة الحق، واحْتَالُوا فِي إِضْلَالِ النَّاسِ فَإِنَّ الله سيرد كيدهم في نحورهم،
مصداقا لقوله سبحانه: { ومكر أولئك هو يبور}سورة فاطر الاية 10 ، أي: يفسد ويبطل ويظهر زيفهم عن قريب لأولي البصائر والنهى، فأمرهم لا يروج ويستمر إلا على غبي أو متغابي،
ولذا فمن ظَنَّ انتصار الباطل على الحق انتصار دائما وفي كل الاوقات فقد أساء الظَنَّ بالله ، وقد ذكر الإمام العلامة ابن الْقَيِّمِ في كتابه “زاد المعاد في هدي خير العباد” صورا كثيرة لسوء الظن بالله – في كلام طويل وماتع – اقتصر منه على ما يناسب موضوعنا في الْجُمَلِ الاتية ، قال رحمه الله :أكثر الناس يظنون بالله غير الحق ظَنَّ السُّوءِ فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وعرف أسماءه وصفاته، وعرف حكمته:
– فَمَنْ قَنَطَ مِنْ رَحْمَتِهِ وأيس من روحه، فقد ظَنَّ به ظَنَّ السُّوءِ.
– ومَنْ ظَنَّ بأنه لا ينصر الحق، ولا يُتِمُّ أمره، ولا يؤيد حزبه، ويعليهم ويظفرهم بأعدائه، ويظهرهم عليهم، وأنه ينصر الباطل على الحق نَسَبَهُ يضمحل معه الحق اضمحلالا لا يقوم بعده أبدا، فقد ظَنَّ بالله ظَنَّ السُّوءِ ، و نَسَبَهُ إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته، فَإِنَّ حَمْدَهُ وَعِزَّتَهُ وَحِكْمَتَهُ وَإِلَهِيَّتَهُ تَأْبَى ذَلِكَ ، وتأبى أَنْ يُذَلَّ حزبه وجنده وأَنْ تكون النُّصْرَةُ المستقرة و الظَّفَرُ الدائم لأعدائه ، فمن ظَنَّ به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه ولا عرف صفاته وكماله،
– وكذلك مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يكون ذلك بقضائه وقدره فما عرفه ولا عرف ربوبيته وملكه وعظمته، وكذلك مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يكون قَدَّرَ مَا قَدَّرَهُ من ذلك وغيره لحكمة بالغة وغاية محمودة يستحق الحمد عليها، وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردة عن حكمة وغاية مطلوبة هي أحب إليه من فوتها،
– و مَنْ جَوَّزَ عليه أَنْ يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم و يُسَوِّي بينهم وبين أعدائه، فقد ظَنَّ به ظَنَّ السُّوءِ.
– و مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ لَنْ يَجْمَعَ عَبِيدَهُ بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازي المحسن فيها بإحسانه والمسيء بإساءته، و يُبَيِّنَ لِخَلْقِهِ حَقِيقَةَ ما اختلفوا فيه، و يُظْهِرَ للعالمين كلهم صدقه وصدق رسله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين، فقد ظَنَّ به ظَنَّ السُّوءِ.
– و مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يُضَيِّعُ عليه عمله الصالح الذي عمله خالصا لوجهه الكريم على امتثال أمره، ويبطله عليه بلا سبب أو ظَنَّ أَنَّهُ يعذب من أفنى عمره في طاعته ، وَيُنَعِّم مَنِ اسْتَنْفَدَ عُمُرَهُ في عداوته وعداوة رسله ودينه، فيرفعه إلى أعلى عليين، فقد ظَنَّ به ظَنَّ السُّوءِ.
– و مَنْ ظَنَّ به أَنَّهُ إذا صدقه في الرغبة والرهبة، وتضرع إليه وسأله، واستعان به وتوكل عليه أَنَّهُ يخيبه ولا يعطيه ما سأله، فقد ظَنَّ به ظَنَّ السُّوءِ ، و ظَنَّ به خلاف ما هو أهله.
– و مَنْ ظَنَّ به أَنَّهُ إذا أغضبه وأسخطه، وأسرع في معاصيه ثم اتخذ من دونه وليا، ودعا من دونه ملكا أو بشرا حيا أو ميتا يرجو بذلك أن ينفعه عند ربه ويخلصه من عذابه فقد ظَنَّ به ظَنَّ السُّوءِ ، وذلك زيادة في بعده من الله وفي عذابه.
فلا تظنن بربك ظن سوء … فإِنَّ الله أولى بالجميل . انتهى كلام ابن القيم ملخصا ،
نسأل الله أَنْ يثبتنا على الحق و أَنْ ينصر الاسلام وأهله المدافعين عنه و أَنْ يَخْذُل الحاقدين والكارهين وَالْمُرْجِفين في كل مكان ، آمين