شهدت المرائي المتوافرة والمتواترة لحجاج بيت الله تعالى هذا العام 1435هـ بأنه الأفضل، وليس ذلك بغريب؛ فإن إيمان بلادي بخدمة الحرمين الشريفين، والتشرف باستقبال وفد الرحمن كل عام، يجعلها تبذل المليارات كل موسم؛ ليكون الأفضل دائما.
ولا يوجد عمل بشري كامل، بل (الكمال) أن يسمو الإنسان بإرادته إلى (الكمال)، وإن كان لن يبلغه يوما أبدا.
لقد تم التعامل مع أبرز المشكلات الكبرى بالفتاوى الشرعية الموثوقة المرنة، التي تراعي الواقع وفسحة الدين، وآراء العلماء السابقين واستنباطات اللاحقين المبنية على التقوى، كما تم التعامل معها بالمشروعات العملاقة، التي أصبحت واقعا مبهرا، بعد أن كانت مجرد أفكار أو أحلام، أو همهمات في المجالس بل في دهاليز الأنفس.
ولو تقصينا أكثر العلامات الفارقة هذا العام، لوجدناها في الارتقاء بالتعامل الإنساني مع الحجاج من قبل رجال الأمن والعاملين في الممرات الجوية والبرية والبحرية، وفي كل منصة وردهة من ردهات الحج، فقد أصبحت الابتسامة روحا تدبُّ في الكلمة؛ لتصفها باقة من الورود يتقبلها المخاطب، حتى وإن لم تلبِّ مطلوبه.
وتضامن مع رجال الأمن شبابنا المتطوع، الذين تشاهدهم كاللؤلؤ المنثور، يركضون في همة ونشاط، ورغبة طافحة على الأعين في تقديم الخدمات للحجاج بكل حب ومهنية، يوزعون الكلمات العذبة مع كل خدمة، إنها فرصة لدمج جيل كامل من الشباب بالعمل الميداني الرحب، والتدرب على كثير من المهارات، بل هي المواطنة الحقة، مدفوعة بطلب رضا الرب (عز وجل)، ثم التمثيل الحضاري لبلد ينهض بواجبه السنوي، لينال الشرف الأخروي.
لقد تابعت مع الملايين صورا أخاذة لرجال الأمن والمتطوعين وهم يساعدون الضعيف، ويهدون التائه، ويبردون على (الحران)، ويوقرون الشيخ الكبير، وتلك بصمة هذا الموسم بغير منازع.
إن تعداد الجوانب الإيجابية في موسم ضخم كالحج يقلل من قيمتها؛ لأنها الأصل، ولذلك سأقفز مباشرة لمشكلة هذا العام، وهي: (النظافة في المشاعر)، فإن المستوى لا يزال أقل من المأمول، وحين أطرح هذا الأمر، فإني أمزجه بطرح بعض الحلول؛ ليقيني بأن الوصول إلى النظافة بالمستوى اللائق بالمشاعر ممكن جدا، ويعود ذلك إلى ما شاهده الحجاج من نظافة (كاملة) في (الحرم) مع تدفق الملايين على أروقته وعلى ساحاته، وما شاهدوه من نظافة (كاملة) في الجسور المؤدية للجمرات، بينما بقيت الممرات والشوارع وما بين المخيمات كتلا من المخلفات، وقد تختلط بالمياه من المطر وغيره، فتتحول إلى مواد خطرة على صحة الحاج.
وأرجع هذه الظاهرة السيئة إلى الآتي:
أولا: ضحالة ثقافة النظافة لدى الحاج، فقد اعتاد أكثر الحجاج أن يرموا مخلفاتهم مباشرة دون النظر إلى أين تذهب، على الرصيف، وراء خباء خيمة، على بشر، لا يهم، وفي المقابل لم أجد أي عملية تثقيفية في هذا الاتجاه تستحق الإشادة.
ثانيا: قلة صناديق النفايات، فهي ليست متوافرة بالقدر الكافي في الأماكن التي أقصدها هنا، وحينها يكون تخلص الحاج من القاذورات التي في يده مبرَّرَا عنده، (أين أذهب بها؟)
ثالثا: عدم اللجوء إلى التوزيع الجيد لعمال النظافة، بطريقة (المربعات)، والمسؤولية الكاملة على العامل، بل هناك تكتل في أماكن، وقلة في أماكن، ولاسيما في عرفات ومزدلفة ومنى.
رابعا: تشاغل عمال النظافة بالتطلع أو حتى بطلب الصدقات من الحجاج، وأظن أنهم يعدونه موسما لا مثيل له، مستغلين رغبة الحاج في أجر الصدقة في مكان وزمان فاضلين، بينما خلت المشاعر تماما من الجهات الخيرية، وهنا تتعطل آلة النظافة، وتنشط عملية التسول المتوشح بالوظيفة الرسمية.
خامسا: تأجيل التنظيف بحجة الازدحام، وهي حجة لا معنى لها حين تقارن هذه الحشود بمثلها في الحرم والجمرات.
ومع ذلك، فإن هذه الملاحظة (المهمة) لا تقلل من ذلك النجاح العظيم الذي تُوِّجَ به هذا الموسم، ووفق الله تعالى إليه.