الأحد 24 نوفمبر 2024 / 22-جمادى الأولى-1446

من تمسكَ بالدين اهتدى .. ومن أعرض عنه ضل وغوى



رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْوَهَّابُ.فالثباتَ الثباتَ يا عباد الله..والاستقامة الاستقامة حتى يتحققَ فينا قولُ الحق تبارك وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ).
فمهما جمعت من الدنيا وحققت من الأمنيات…فعليك بأمنية يوسف عليه السلام: (توفني مسلماً وألحقني بالصالحين)…فلا تعش بعيداً عن الله وتطلب السعادة بعد ذلك…فالخاتمة الحسنة لا تقع إلا لمن كانت سريرته حسنة؛ لأن لحظة الموت لا يمكن تصنعها, فلا يخرج حينئذ إلا مكنون القلب.فيا مستفتحاً باب المعاش بغير إقليد التقوى والاستقامة,,كيف توسع طريق الخطايا وتشكو ضيق الرزق؟؟..فإنك لو جربت كل ملذات المعاصي, فإنها والله لن تساوي سجدة لشخص قائم لله يصلي ويدعو.ومن علامات الفلاح والثبات: أن تكون أيها المسلم ممن يترك الشهوة المذمومة مع الاستمكان منها, وأن تفي بالصالحات مع نفور النفس عنها, وأن ترد الأمانات إلى أهلها مع الحاجة إليها.

وتأملوا عظيم أثر الصحبة الصالحة على المؤمن في الثبات والاستقامة في آية نقرؤها في سورة الكهف كل جمعة (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه), فمخطئ من يثق في قدرته على حفظ دينه وسط فتن تموج كموج البحر وهو بمعزل عن أهل الصلاح….قال عمر بن عبدالعزيز يوماً لأحد أصحابه: إذا رأيتني ضللت الطريق فخذ بمجامع ثيابي وهزني هزاً عنيفاً, وقل لي: اتق الله يا عمر فإنك ستموت..وعليكم بكتابِ اللهِ تعالى (إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ) .. ذلك الكتابُ الذي كانَ ثباتاً لرسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا) .. ذلك المنهجُ الواضحُ الذي من تمسكَ به اهتدى .. ومن أعرض عنه غوى.

إن من أعظمِ وسائلِ الثباتِ والاستقامةِ على الطريق, هو الاعتصامُ باللهِ وحدَه .. والفِرارُ إليه في الفِتَنِ .. وتأملوا قولَ ذلك النبيِ الكريمِ الذي لجأ إلى اللهِ تعالى في الفتنةِ ولم يعتمد فقط على ما عندَه من إيمانٍ .. (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ) فماذا كانَ الجوابُ؟ .. (فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) .. وعَنْ أَنَسٍ رضيَ اللهُ عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: (يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ) .. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ .. فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ .. قَالَ: (نَعَمْ، إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ).إخوتي الكرام: من دخلَ في قلبِه الإيمانُ الخالصُ .. ثبَتَ ثباتَ الجبالِ .. وتمسك بدينِه على جميعِ الأحوالِ .. فيستحيلُ أن تُغيّرَه الأزمانُ .. ولا يؤثرُ فيه المكانُ .. ولكم في رسولِ اللهِ أسوةٌ حسنةٌ عندما خاطبَه ربُه تعالى بقولِه: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) .. ولاحظوا قولَه: (فَاسْتَمْسِكْ) التي تدلُ على شِدةِ الاستمساك.

ما السببُ الحقيقي في عدمِ استقامتِنا على الدينِ؟. هل هو ضَعفٌ أمامَ الشهواتِ؟ .. هل هو الشيطانُ وحبالُه والخُطُواتُ؟ .. هل هي الشُبُهاتُ؟ .. هل هو الخوفُ من استهزاءِ الناسِ والغَمَزاتِ؟ أو هو عدمُ يقينٍ بربِ الأرضِ والسماواتِ؟كُلنا يدعو في صلاتِه في كلِ يومٍ وليلةٍ (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) .. فما أثرُ هذا الدعاءِ على قلوبنِا وعلى سلوكِنا؟يا من يُحاربُ الدينَ وأهلَه .. لا لشيءٍ إلا لأنهم يغيظون الكفارَ بسببِ التزامِهم بأحكامِ الشرعِ …أين ثباتك على الدين؟ وأين اعتزازك باستقامتك لرب العالمين؟ يا من ينادي بتغييرِ أحكامِ المرأةِ لأنها لا توافقُ المواثيقَ الدوليةَ .. فيا من يظنُّ أن أحكامَ الإسلامِ تتصادمُ مع حضارةِ الغربِ أو تَقدُّمِ الشرقِ .. ومنها (الركونُ إلى الذينَ ظلموا) وهو الميلُ والسكونُ إلى الظلمةِ كفاراً كانوا أو منافقينَ, فيما يدعونَك إليه مما يُخالفُ أمرَ اللهِ تعالى وأمرَ رسولِه صلى اللهُ عليه وسلمَ …

ومن قُطَّاعِ الطريقِ المستقيمِ ما ذكرَه اللهُ تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلا تَرْكَنُوا إلَى الَذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ) .. فبعدَ أن أمرَ الاستقامةِ .. ذكرَ أهمَ أسبابِ الانتكاسةِ .. فمنها (الطُغيانُ) الذي يُصيبُ النفسَ البشريةَ .. فتتجاوزُ حدودَها .. وتتفلتُ من عبوديةِ ربها.. بسببِ الشهواتِ التي لا يصلُ إليها غالباً إلا بالنكوبِ عن الصراطِ المستقيمِ.وقفَ على الطريقِ أعدى الأعداءِ الشيطانِ الرجيم.. متهدداً ومتوعداً بإخراجِك منه مُتبعاً جميعَ الوسائلِ .. ويأتيك من كلِ الاتجاهاتِ .. (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) ومن أعظمِ طرقِ إغواءِ الشيطانِ هو تحسينُ القبيحِ .. وتقبيحُ الحَسَنِ.
إن الاستقامةَ على الصراطِ المستقيمِ هو أقصرُ الطرقِ إلى جنةِ اللهِ تعالى .. ولكنه ليسَ بالأمرِ الهيِّنِ ..إيه وربي ليس بالأمر الهين… ففي الطريقِ تحويلاتٌ .. وعليه عَقَباتٌ ..وأمامه حفرٌ وخنادق.. فَعَن جَابِرِ بنِ عَبدِاللهِ رضيَ اللهُ عنهما قَالَ: كُنَّا عِندَ النَّبيِّ صلى اللهُ عليه وسلمَ فَخَطَّ خَطًّا وَخَطَّ خَطَّينِ عَن يَمِينِهِ وَخَطَّ خَطَّينِ عَن يَسَارِهِ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ في الخَطِّ الأَوسَطِ فَقَالَ: (هَذَا سَبِيلُ اللهِ، ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُستَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبِيلِهِ).الله أكبر يا عباد الله…ما أعظم الاستقامةَ وما أروع نتائجها…فالاستقامةُ هي الثباتُ على دينِ اللهِ تعالى قولاً واعتقاداً وعملاً .. في السراءِ والضراءِ ..في اليسرِ والعسرِ .. في القوةِ والضَعْفِ .. وفي الصحةِ والمرضِ .. وعدمُ التنازلِ عنها أبداً.

(ثُمَّ اسْتَقِمْ) .. فإذا أسلمَ الإنسانُ ثم وقَرَ الإيمانُ في قلبِه فإنه يحتاجُ إلى الاستقامةِ على دينِ اللهِ تعالى. .. ثم الثباتِ على ذلك .. تلك الاستقامةُ التي أُمرَ بها أتقى الناسِ .. وأخشى الناسِ .. بقولِه تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ)سمعَ السؤالَ الذي (مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) فأجابَه بجوامعِ الكَلِمِ الذي أُوتيها: (قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ) .. فالإسلامُ الظاهرُ لا يكفي إلا ومعه إيمانٌ باطنٌ .. (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) .. إيمانٌ باللهِ تعالى لا ريبَ فيه ولا شكَ .. قولٌ باللسانِ .. يُوافقه يقينٌ في القلبِ .. ويُصَدِقُّه عملُ الجوارحِ ..

ما أجملَه من سؤالٍ .. اختصرَ به الصحابيُ الجليلُ حبَه لهذا الدينِ العظيمِ .. وأوضحَ به حرصَه على معرفةِ الطريقِ الصحيحِ حتى يأتيَ به يومَ القيامةِ تامَّاً لا خللَ فيه ولا نقصَ .. احتاجَ إلى جوابٍ جامعٍ في الإسلامِ من فمِ النبيِ صلى اللهُ عليه وسلمَ فقط .. لذلك قالَ له: لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ.فقد سأل الصحابي الجليل سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ، قَالَ: (قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ).الحَمْدُ للهِ العَلِيمِ الحَكِيمِ، بَاسِطِ الخَيْرَاتِ، وَكَاشِفِ الكُرُبَاتِ، وَدَافِعِ النِّقَمِ وَالعُقُوبَاتِ، يُطَاعُ فَيُثِيبُ وَيَشْكُرُ، وَيُعْصَى فَيَحْلمُ وَيَغْفِرُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ؛ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ..أَمَّا بَعْدُ:

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم