السبت 23 نوفمبر 2024 / 21-جمادى الأولى-1446

مفهوم النرجسية في الإسلام



 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على إمام المتقين وعلى آله وصحبه أجمعين

حياكم الله تعالى أخواني وأخواتي الأفاضل والفضليات

الهدي الإسلامي يُسهم في سعادة الفرد والمجتمع، وفي تمتع الفرد بالصحة العقلية والنفسية الجيدة، ويحميه من كافة الأمراض والعلل، ومن وجوه الانحراف والجنوح، والعنف والعدوان، أو الغرور، والكبر، والتعالي، وتوهم التفوق على كافة البشر. وإسلامنا الحنيف يربي الإنسان على التوسط والاعتدال، وعلى التواضع والكرم، والجود والسخاء، والتعاون. ويربي الإسلام أبناءهُ على الواقعية، والبعد عن الغلو والشطط، أو الغرور والمباهاة الزائدة. وفي هذا الفيديو المتواضع، استعراض معكم حالة سلبية قد تصيب الإنسان وهي: النرجسية، وبيان فضل السبق الإسلامي في الوقاية منها، ومن غيرها من آفات النفس، وأدران القلب والعقل.

مفهوم النرجسية وأعراضها:

أصدقائي

ماذا يحدث عندما تنحرف العاطفة الإنسانية السامية في الإنسان، وأعني بها عاطفة الحب؟ هذه العاطفة التي تحرك مشاعر الإنسان، تلك العاطفة مسؤولة عن بقاء النوع البشري، والمحافظة عليه وارتقائه، العاطفة التي تملأ قلب الأم فتضحي من أجل صغارها، وتغمر وجدان الأب فيسهر من أجل إسعادهم.

ماذا يحدث إذا انحرف الحب وتحول من حب الغير إلى حب الذات وعشقها؟ أي: ماذا يحدث عندما يُصاب الشاب أو الشيخ الكبير بما يعرف باسم “النرجسية” ؟ النرجسية في مدرسة التحليل النفسي تعني: حب الذات أو عشقها لا شعورياً. وأنا لا أقصد بتلك الحالة من النرجسية التي يتحول فيها صاحبها إلى حيوان يفترس فيها ضحيته ضرباً وإهانة وافتراساً وتسلطاً!!! لا تلك النرجسية مرحلة متقدمة جداً تسمى النرجسية التسلطية. أنا أتحدث عن النرجسية النفسية التي ينظر الإنسان إعجاباً في نفسه وحباً وعشقاً. عموماً…

درجات النرجسية:

كان يُعتقد أن النرجسية مرحلة من مراحل النمو الطبيعي، وعندما توجد النرجسية في الطفولة المبكرة يطلق عليها النرجسية الأولية، أما عندما ترتد الطاقة الحيوية من العالم الخارجي بما فيه من أناس وأشياء تتجه نحو الذات كما هو الحال في مرض الفصام نكون أمام ما يعرف باسم النرجسية الثانوية، وفي حالات الفصام وجنون الاضطهاد والحزن الشديد فإن الطاقة الحيوية ترتد أو تنتكص في المرحلة النرجسية من مراحل النمو وفي حالة عصاب الهستيريا وعصاب الوسواس، فإنها ترتد إلى موضوعات الحب الأولي.

ويفسر هذا فقدان اهتمام الشخص الفصامي بالعالم الخارجي، وهذيان العظمة Grandeur وطبقاً لوجهة النظر التحليلية فإن خط النمو يسير من الشكل البدائي لحب الذات Self-love عبر ارتباطات متعددة حتى يصل الفرد إلى مرحلة النضوج، ومعنى ذلك: أن الفرد وفي حالة سير النمو سيراً طبيعياً ينتقل من حبه لذاته إلى حبه الآخرين: أي من الأنانية إلى الغيرية والإيثار Altruism.

النرجسية والعلاقات الزوجية:

يؤكد علماء النفس أن عاطفة الحب تمر بعدة مراحل في إطار تطورها ونموها من الطفولة حتى البلوغ؟

أ – حب الذات أي حب الطفل في مرحلة الرضاعة لذاته.

ب – الحب الطفولي أي حب الطفل لوالديه.

ج – حب الشباب المبكر أي: حب الأصدقاء.

د – حب الشريك أو الرفيق وهو الحب في مرحلة الرشد.

وعندما يظل موضوع الحب عند الفرد على المستوى الأول أي عند حب الذات فإننا نصفه بأنه شخص نرجسي، وعندما يجمد النمو عند المستوى الثالث تكون جاذبية الفرد نحو أفراد من نفس جنسه، ويصل النمو إلى مداه الطبيعي عندما يوجه نحو فرد أو أفراد الجنس الآخر. ويصل الأشخاص الأسوياء إلى مرحلة خامسة هي حب الحياة أو هي ما يطلق عليه: الحب المبدعº حيث يتوحد الزوج مع شخصية زوجته، ويستغرقان في أداء رسالتهما في تربية أبنائهما مؤسسين منزلاً سعيداً هادئاً، ويخوضان حياة عملية ناجحة.

أما إذا تزوج الشاب وكان على نرجسيته، فإنه يتعذر عليه أن يتكيف مع شريكة حياتهº حيث يسيطر على سلوكه شعور بالإعجاب الشديد بذاته، والافتتان بها، والمبالغة في تقدير محاسنه، ومزاياه، وصفاته إلى حد الغرور البغيض، الأمر الذي يجعل زوجته والمحيطين به جميعاً ينفرون منه، وتجده متعالياً على الآخرين، ويرى أن زوجته لا تستحقهº لما يراه في نفسه من مميزات وصفات.

من دلائل النرجسية في الشخص:

هناك حيل دفاعية تنبع من النزعات النرجسية، وتتمثل في عادة الفرد في اختلاق أعذار لأخطائه مهما كانت مسؤوليته الحقيقية عن هذه الأخطاء بل إن هذه الحيلة الدفاعية قد توجد مصاحبة للسلوك القهري غير المسؤول، ذلك السلوك الذي يجد الفرد نفسه مضطراً لارتكابه، ولكنه ينم عن عدم إحساسه بالمسؤولية، وفي واقع الحال يدل تحليل هؤلاء الأشخاص النرجسيين على عدم وجود مشاعر النقص والدونية عندهم، وكذلك الشعور بعدم الملائمة أو عدم الكفاءة. كما أن هذه الحيل تعمل لحماية الفرد من مشاعر الإثم، والذنب، ولوم الذات، وتأنيبها بعد الإتيان بأعمال غير مسؤولة.

ويقال: إن وجود درجة ما من الافتتان بالذات، أو حب الذات، وجنونها، أو الولع والشغف بها يفيد في تشجيع الفرد على القيام بعمله، والانتهاء من إنجازاتهº ذلك لأن اعتقاد الفرد بأن عمله على جانب كبير من الأهمية يبرر له أن يبذل أقصى درجة من الجهد والطاقة نحو هذا العمل. ومن هنا فإن هناك ارتباطاً بين التحصيل المرتفع، والشعور المرتفع باحترام الذات، ولكن لذلك سلبيات كبيرة، ولاسيما إذا تعاظم الشعور بالذات إلى حد الغرور.

والملاحظة اليومية تكشف عن وجود حالات خفيفة وبسيطة من النزعات النرجسية تظهر في السلوك لدى الأشخاص العاديين، من ذلك: المبالغة في رياء الذات، أو الإطراء عليها، وفي حديث البعض عن ذاته والإكثار من المديح، وعن الأعمال وعن \”الأمجاد\” والإنجازات التي أنجزها المتحدث وذلك بصورة تبعث على ملل السامع، واشمئزازه، ونفوره.

ويبلغ إعجاب بعض علمائنا وأساتذة الجامعات بإنتاجهم العلمي الحد الذي لا يقرأون إنتاج زملائهم من العلماء، ويقصرون طلابهم على الإطلاع على مؤلفاتهم وحدهم دون سواهم.

ما أحرانا نلتزم الواقعية والموضوعية في الحكم على الأشياء والناس، وفي تقدير ذواتنا وجهودنا، وجهود الغير، ومن ثم الاستفادة من علمهم وإنجازاتهم دون التحيز الأعمى لكل ما هو ذاتي.

علاج النرجسية في الإسلام:

الإنسان اجتماعي بطبعه، وقد عزز إسلامنا الخالد هذه الصفة في الإنسان، فدعاه إلى الاختلاط بالناس، وحضور جمعهم وجماعتهم، والتعاون معهم، والاتحاد وإياهم. ومن ذلك: حضور مجالس الخير والذكر، وعيادة المرضى، وحضور الجنائز، ومواساة المحتاجين، وإغاثة الملهوف، ونصرة المظلوم، وإرشاد جاهلهم. وأمرنا إسلامنا الخالد بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجدال بالحسنى، وأيضاً قمع النفس عن الإيذاء، والتدرب على الصبر، والاحتمال، والاختلاط بالناس في وجوه الخير والنفع، وهو الأمر الذي كان عليه رسولنا الكريم {،، وسائر الأنبياء – عليهم السلام – وكذلك الخلفاء الراشدون، ومن بعدهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين، وأخيارهم ويستمدون ذلك من النصوص القرآنية والنبوية ومنها قول الله – تعالى -: وتعاونوا على البر والتقوى\”(2) {المائدة: 2}.

وقول الله في القرآن الكريم مخاطباً رسولنا الكريم: واخفض جناحك لمن \\تبعك من المؤمنين 215 {الشعراء: 215}.

دعوة للتواضع ونبذ الكبر والتعالي اللذين يقودان للنرجسية، وحب الذات، وفي ذلك أيضاً قوله – تعالى -: \”يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين 54\” {المائدة: 54}.

فالمسلم مدعو للتواضع مع المؤمنين، ومعيار التفوق ليس في الأصل، أو الجنس، أو السلالة، أو الطبقة الاجتماعية، أو الجاه، والثراء، والسلطان وإنما هو التقوى، والخوف من الله – تعالى – كما في قوله – تعالى -: \”يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى\” وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم 13\” {الحجرات: 13}.

والمسلم مدعو للبعد عن الغرور كما في قوله – تعالى -: \”فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى\” 32 {النجم: 32}.

وفي الدعوة للبعد عن الكبر والتعالي يقول الله – تعالى -: \”ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون 48 أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة \\دخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون 49\” {الأعراف: 48، 49}.

وفي الدعوة للتواضع يقول الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم -: \”إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد\” (1).

فالبغي والفخر والكبر من السمات الذميمة في الإسلام. ولقد جاء الهدي النبوي المطهر: \”ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله\”(2) وكان الرسول – صلى الله عليه وسلم – يسلم على الصبية، وكان في بيته في خدمة أهله. ومن باب التواضع كان أنبياء الله – تعالى – يعملون في مهن بسيطة كالرعي، أو النجارة، أو الحدادة وعن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قوله: \”ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم، فقال الصحابة: وأنت؟ قال: نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة\”(3).

وفي تحريم الكبر والعجب يقول الله – تعالى -: تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين 83 {القصص: 83}.

وقال – تعالى -: ولا تمش في الأرض مرحا 37 {الإسراء: 37}.

وفي الدعوة للتوسط والاعتدال يقول – تعالى -: ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور 18 {لقمان: 18}.

وفي بيان فضل التواضع يقول رسولنا الكريم – صلى الله عليه وسلم -: \”لا يدخل الجنة من كان في قلبه ذرة من كبر\” وقد فسر – عليه الصلاة والسلام – الكبر بأنه: \”الكبر بطر الحق وغمط الناس\”(4) أي احتقار الغير. وفي هذا الصدد يقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: \”ألا أخبركم بأهل النار، كل عتل جواظ مستكبر\”(5) وقال – صلى الله عليه وسلم -: \”لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطراً\”(6).

فنحن معشر المسلمين مدعوون لنبذ العجب والغرور والكبر، وهما مما يبعد الإنسان عن الكمال، وهما من أعظم المهالك في الحال والمآل، فكم من نعمة انقلبت بهما إلى نقمة؟ وكم من عز صار بهما ذلاً؟ وكم من قوة أصبحت بهما ضعفاً؟ ولذلك جاء الكتاب والسنة بتحريمهما، والتنفير منهما، والتحذير منهماº كما في قوله – تعالى -: وغرتكم الأماني حتى\” جاء أمر الله وغركم بالله الغرور 14 {الحديد: 14}.

وقوله – تعالى -: \”يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم 6\” {الانفطار: 6}.

وقوله – تعالى -: \”ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا 25\” {التوبة: 25}.

وفي ذم الإعجاب بالذات يقول الرسول الكريم {: \”ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه من الخيلاء\”(7). وقوله – صلى الله عليه وسلم -: \”إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك\”(8). وقوله – صلى الله عليه وسلم -: \”الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني\”(9).

وعلى ذلك فالمسلم عليه أن يتواضع في غير مذلة ولا مهانة، والتواضع من أخلاقه المثالية، وصفاته العالية، كما أن الكبر ليس له، ولا ينبغي لمثلهº إذ المسلم يتواضع فلا يرتفع ولا يتكبرº لئلا ينخفضº إذ إن سنة الله – تعالى – جارية في رفع المتواضعين له، فالتواضع يجب أن يتحلى به المسلم.

_______________________________

أخوكم فؤاد الحمد – مستشار تربوي

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم