عبدالعزيز أبراو
فإذا كانت الإعاقة عند ذكرها تنصرف إلى الإصابة بقصور كليٍّ أو جزئي في إحدى القدرات الجسمية، فهذا راجع بالأساس إلى أصل الخِلقة التي خُلق عليها الإنسان؛ إذ لا مدخل للمرء في هذه الإعاقة، لكن موضوعي في هذه الكلمة هو الإعاقة في نظر الإسلام، التي هي وصف لمن لم يستعمل حواسه وجوارحه في الوصول إلى الله تعالى، والإيمان به، وليس من ابتُليَ بنقص في جسمه.
إنها الإعاقة التربوية والشلل الخُلُقي الذي أقعدهم عن التسبيح والسجود الكوني لله رب العالمين -الذي يعاني منه كثير من الناس – رغم كونهم يتمتعون بالصحة والعافية؛ كما قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾ [الحج: 18].
﴿ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ﴾ [الحج: 18]؛ إنهم عاجزون عن التزكية، واستبدلوا بها التدسية؛ لأن هممهم سافلة، ونفوسهم في الخلاء بسبب الخروج عن الجادة، وتجردهم من لباس التقوى والورع، ففاحت منهم روائح الطين المسنون، وانكشفت عوراتهم الأخلاقية، فأصبحت حواسهم وأركانهم معاقة لهم، مشاركة وجدانية لقبول المنكر والتطبيع معه، عاجزة عن الوصول إلى المطالب العالية، فلا تراهم إلا مع الخوالف؛ كما قال تعالى: ﴿ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الأحزاب: 18]، إنهم المثبَّطون، المثبِّطون لغيرهم، إنهم قوم خُلقوا ليفترسوا؛ ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 11]، نفرٌ يتوفر لهم كل الظروف للعمل والطاعة، لكنهم عاجزون عن الفرار إلى الله؛ كما وصفهم القرآن الكريم: ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴾ [البقرة: 18]؛ قال ابن القيم رحمه الله في عقوبات المعاصي: “ومنها التثبيط عن الطاعة، والإقعاد عنها”[1].
لا يسمعون إلا الباطل، ولا يتكلمون إلا بالباطل، لا يرون إلا الضلال، أما الهدى، فإنهم قد أصبحت بصيرتهم معاقة، مشلولة عن اتباعه، وقد أشار ابن القيم إلى هذا الملحظ الدقيق في قوله: “وذلك أن القلب وغيره من الأعضاء يُراد منه أن يكون صحيحًا سليمًا لا آفة به، يتأتى منه ما هُيئ له وخُلق لأجله، وخروجه عن الاستقامة إما ليُبسه وقساوته وعدم التأتي لِما يراد منه؛ كاليد الشلاء، واللسان الأخرس، والأنف الأخشم[2]، وذَكَرِ العنين[3]، والعين التي لا تبصر شيئًا”[4]، هؤلاء فئة تعاني من الكساد الأخلاقي، بضاعتهم مزجاة من التربية الصالحة، فسدت طباعهم، وأصبح الحق عندهم منكرًا، والمنكر معروفًا، إنهم كالمزكوم الذي لا يجد حلاوة للطيبات، وربما يستسيغ الملوثات المنتنات؛ كما قال المتنبي:
ومن يكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ
يجد مرًّا به الماء الزُّلال
إنهم شرذمة قليلة – ولله الحمد – يعانون من اليُتم والفقر التربوي؛ قال ابن القيم رحمه الله: “ومن عقوبات المعاصي نكس القلب حتى يرى الباطل حقًّا، والحق باطلًا، والمعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، ويفسد ويرى أنه يصلح…[5]”؛ كما جاء في التنزيل: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [البقرة: 206].
قال ابن القيم: “اشتباه المعروف عليه بالمنكر، فلا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، وربما استحكم عليه هذا المرض حتى يعتقد المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، والحق باطلًا والباطل حقًّا”[6].
إذا رأيتهم تعجبك أجسادهم خِلقة وبناء، أصحاء، أسوياء، أجسامهم كالبغال، لكن يعانون من صغر نفوسهم، ونزولهم إلى الحضيض، لهم إمكانيات ليحتلوا المقامات العالية، لكن هممهم ساقطة سافلة؛ كما قال الشاعر المتنبي:
ولم أرَ في عيوب الناس عيبًا
كنقص القادرين على التمامِ
إذ ليس في الإنسان عيبٌ أقبح من أن يكون ناقصًا مع قدرته على الكمال، صورة سليمة كامل الخلقة، لكنه أعرج في المسير إلى الله، رضي أن يكون مع المتخلفين عن الجماعات والجمعات في المساجد، وقبِل بالصمت عن قول الحق، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إنه شيطان أخرس، وإذا سمع الباطل، ورأى المنكر، خاض فيه مع الخائضين، إنه شيطان ناطق في المنهيات، نفوس خبيثة في جسوم سليمة تجرها إلى الشر جرًّا؛ كما قال الشاعر:
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم
طاروا إليه زرافاتٍ ووحدانا
وقد أحسن ابن القيم تصوير حالة هؤلاء المعاقين الذين قيل لهم: ﴿ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴾ [التوبة: 46]، في قوله: “وما أمر الله عز وجل بأمرٍ إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما تقصير وتفريط، وإما إفراط وغلو”.
فلا يبالي بما ظفر من العبد من الخطيئتين، فإنه يأتي إلى قلب العبد فيستامه، فإن وجد فيه فتورًا وتوانيًا وترخيصًا، أخذه من هذه الخطة فثبَّطه وأقعده وضربه بالكسل والتواني والفتور، وفتح له باب التأويلات والرجاء وغير ذلك، حتى ربما ترك العبد المأمور جملة”[7].
لأنه إذا كانت النفوس صغارًا، أعاقت الجوارح عن العمل، وحبستها عن المبادرة إلى الخيرات؛ كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يبغض كل جعْظَرِيٍّ جوَّاظ سخَّاب بالأسواق، جيفة بالليل، حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا، جاهل بأمر الآخرة))[8].
وكما أن الإعاقة الجسدية أنواع، فإذًا حتى الإعاقة التعبدية التربوية أنواع؛ نذكر منها:
الإعاقة الفكرية العقلية: قال ابن القيم: “ومن عقوبات المعاصي أنها تؤثر بالخاصية على نقصان العقل… ولهذا تجد خطاب القران إنما هو مع أولي العقول والألباب؛ كقوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197].
والإعاقة القلبية: قال ابن القيم رحمه الله: “إنها – الذنوب – تضعف سير القلب إلى الله والدار الآخرة، أو تعوقه وتوقفه وتقطعه عن السير، فلا تدعه يخطو إلى الله خطوة… ومنها: جعل القلب أصم لا يسمع الحق، أبكم لا ينطق به، أعمى لا يراه، فتصير النسبة بين القلب وبين الحق الذي لا ينفعه غيره، كالنسبة بين أذن الأصم والأصوات، وعين الأعمى والألوان، ولسان الأخرس والكلام، وبهذا يعلم أن العمى والصمم والبكم للقلب بالذات الحقيقة، وللجوارح بالعرض والتبعية؛ ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46]”[9].
والإعاقة الفطرية وإعاقة الشلل… وإعاقة الإرادة والإعاقة الذوقية؛ كمثل قوم لوط الذين قالوا: ﴿ أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴾ [النمل: 56]، كلها أنواع تجعل الإنسان من ذوي الأفكار الهدَّامة تحت مسمى الحداثة مرة، والتحرر تارة، والانتماء إلى النخبة تارة أخرى؛ وقد أبرز ابن القيم رحمه الله صورتهم قائلًا:
“وشبَّه سبحانه من لا يستجيب لرسوله بأصحاب القبور، وهذا من أحسن التشبيه، فإن أبدانهم قبور لقلوبهم، فقد ماتت قلوبهم وقُبرت في أبدانهم؛ فقال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾ [فاطر: 22]، ولقد أحسن القائل:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله
وأجسامهم قبل القبور قبورُ
وأرواحهم في وحشة من جسومهم
وليس لهم حتى النشور نشورُ”[10]
[1] الداء والدواء لابن القيم، ص: 128.
[2] المزكوم.
[3] المصاب بالعنة: هو الذي لا ينتصب ذكره.
[4] إغاثة اللهفان، لابن القيم، ص: 19.
[5] الداء والدواء، لابن القيم، ص: 129.
[6] إغاثة اللهفان، ص: 20، ط 2001.
[7] الوابل الصيب، لابن القيم، ص: 28.
[8] الترمذي 1961، وصححه الألباني.
[9] الداء والدواء، لابن القيم، ص: 82.
[10] إغاثة اللهفان، لابن القيم، ص: 31.