السبت 23 نوفمبر 2024 / 21-جمادى الأولى-1446

ما هو ازدواج الشخصية في ضوء علم الاجتماع؟



 

 

يرى بعض علماء الاجتماع أن ازدواج الشخصية تحدث في كثير من الناس بدرجة متفاوتة، حيث يولد البعض ولديه صراع ثنائي بين نوعين من القيم والأفكار التي تكون متضاربة فيما بينها، وأطلق الباحثان الاجتماعيان “بيج” و”مكايفر” على هذه الظاهرة اسم الصراع الثقافي، كما أطلقا عليها كذلك اسم الثنائية الثقافية، حيث يقولان في هذا الصدد: عندما يتعرّض الفرد لمطالب اجتماعية متناقضة لاسيما في مراحل حياته الأولى قد لا يتمكن من تكوين شخصية متكاملة في نفسه، فهو يحاول أن يوفّق بين تلك المطالب المتناقضة دون جدوى، ولهذا فهو قد يصبح ذا شخصية مزدوجة قليلًا أو كثيرًا.

ولقد أشار إلى مثل هذا الباحث الاجتماعي “كيمل يونغ” عندما استعرض صراع القيم في المجتمع الأمريكي؛ فقد ذكر أن الفرد هناك يعاني من صراع بين “المسيحية” التي ورثها من أسلافه المتدينين، والقيم الاقتصادية “العنيفة” التي يواجهها في محيطه الجديد، وقد تنشأ لديه جراء ذلك (ذلك شخصية مزدوجة أو منشقة). ويقول عالم الاجتماع العراقي “علي الوردي” في كتابه “شخصية الفرد العراقي”، أن ظاهرة ازدواج الشخصية ظاهرة عامة توجد بشكل مخفف في كل إنسان، ويؤكد أن ازدواج الشخصية متغلغل في أعماق النفوس، وأن هذا ليس نفاقًا أو رياء؛ بل في الواقع إن الإنسان ذو شخصيتين، وهو إذ يعمل بإحدى شخصيتيه، ينسى ما فعل آنفًا بالشخصية الأخرى، فهو إذ يدعو إلى المثل العليا أو المبادئ السامية، مخلص فيما يقول جاد فيما يدعي، أما إذا بدر منه بعد عكس ذلك، فمرده إلى ظهور نفس أخرى فيه لا تدري ماذا قالت النفس الأولى وماذا فعلت، وفي هذا الصدد يقول بعض علماء الاجتماع: إن الإنسان ولد وقد ورث ميولًا واندفاعات بهيمية غير مهذبة فتوضع هذه الاندفاعات العارمة تحت تأثير القيم الاجتماعية، حيث يبدأ الطفل ساعيًا في سبيل التوفيق بين ما يشتهي من حاجات وما يفرض عليه المجتمع من اعتبارات وقيم.

ويقول عالم النفس “فرويد”: إن الشخصية الإنسانية نزاع بين ذاتين: الذات السفلى والذات العليا، فمن الناس من ينجح في المصالحة والتوفيق بين هاتين القوتين المتنازعتين فيصبح إذن شخصًا سويًا ومنهم من يفشل فيصبح مجنونًا أو مجرمًا أو منطويًا على نفسه أو مستهترًا. ويرجع “الوردي” أسباب هذا الازدواج إلى نواحٍ ثلاث: الناحية الحضارية، الناحية الاجتماعية، الناحية النفسية.

ومن الناحية الحضارية ويستشهد في ذلك بالمجتمع العراقي منذ بدء المدينة الأولى وجد طبقتين أو حضارتين متصارعتين: حضارة بدوية محاربة وحضارة زراعية خاضعة من ناحية أخرى، فنشأ أثر ذلك نظامان متباينان من القيم: نظام يؤمن بالقوة وتسود فيه قيم الإباء والشجاعة والكبرياء، وبجانبه نظام آخر يؤمن بالكدح والصبر ويمارس أداء الضريبة والخضوع. ولذلك يصبح الفرد مضطرًا لاقتباس نوعين من القيم يقلد فيها طبقتين من الناس: طبقة البدوي الغالب وطبقة الفلاح المغلوب، ويقول ويليام جيمس: إن الإنسان عادة له عدة نفوس لا نفس واحدة فإنه حينما يلاقي جماعة ما اتخذ إزاءها نفسًا تختلف عن النفس التي اتخذها إزاء جماعة أخرى، وكثيرًا نرى الناس يناقضون أنفسهم ولا يشعرون بذلك، فإذا تحرينا السبب وجدنا أنهم يقولون قولًا أثناء تقمصهم لنفس معينة من نفوسهم العديدة، فإذا تحولوا إلى نفس أخرى تراهم قد اندفعوا إلى القول بما يناقض قولهم الأول وهم ولا يشعرون.

وفي هذا الصدد لاحظت يومًا أن أحدهم تحدث في خطبة رنانة في مجلس عن الكرم، وتحدث طويلًا عن حاتم الطائي وكرم العرب، وعندما انتهى الحديث وغادر المجلس ضحك الجميع وقالوا عنه هذا أبخل الناس. وقد يتشدق أحدهم بعبارات الحب والتسامح والتعاون وروح الفريق الواحد وعندما تعمل معه تجده أنانيًا حسودًا منتظرًا فرصة لإلحاق الضرر بالآخرين.

إن كل منا يشعر بلا ريب بما يرى في نفسه وطريقة تفكيره من تحول كبير عندما ينتقل صباحًا من بيته إلى دائرة عمله وينتقل مساء من بيته إلى المقهى أو النادي فهو في بيته غيره عن المقهى، ويسير على هذا اعتيادًا غير مدرك لما يطرأ عليه من تناقض قد يضحك الآخرين. والإنسان عادة لا يستغرب من نفسه هذا التحول والتناقض، ولكنه يستغربه كل الاستغراب إذا لاحظ شيئًا من ذلك في غيره، وهذا ما يسمى بالتناقض الفكري أو ازدواج الشخصية فالبعض يعيش في عالمين متناقضين من عالم الفكر المثالي من ناحية وعالم الفعل الواقعي من ناحية أخرى؛ يجادل بمنطق مثالي بينما هو في الواقع من أبناء هذه الدنيا غضوبًا حقودًا.

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم