أ. خليفة محمد المحرزي
( قصة واقعية حدثت في المجتمع غير أن الأسماء مستعارة )
حميد وفاطمة تقابلا في إحدى المراكز التجارية من باب الصدفة ، فلما دخلا إحدى المحلات المشهورة ، تراشقت أعينهما بسهام الإعجاب المتبادل ، وبعد أن تكرر لقائهما في المحلات الأخرى من باب الصدفة أيضا ، تزايد النظر المتبادل في زوايا غالبا ما تكون بعيدة عن الأعين الأخرى ، حتى رجعت فاطمة في تلك الليلة ، وفي جعبتها رقم هاتفه دون علم أمها التي كانت بصحبتها ، وبعد أن أمضيا ساعات الليل يتجاذبان أحاديث الإعجاب والافتنان ، طلب منها أن يلتقيا في أحدى الأماكن العامة ، خاصة وأن فاطمة تملك رخصة القيادة مع سيارة جديدة ، فوافقت بعد تردد لم يدم طويلا ، فأغلقت الهاتف قبيل الفجر ، وهي منتشية بالسعادة ومتشبعة بالفرحة ، وتمني نفسها بالخير
الوفير ، فقد كان حميد هذا من أوسم الشباب الذين رأتهم ، وأجملهم من ناحية الشكل واللون والمظهر ، ناهيك عن أناقته وملبسه وطريقة حديثه وتناوله لمختلف المواضيع ، لعل من بينها روح الدعابة والفكاهة والمرح ، وكالعادة المتوارثة عند الجنس النسائي ، لم تستطع فاطمة الاحتفاظ بالسر كثيرا ، وإنما أوشت الخبر لإحدى صديقاتها الأمينات ، التي كتمت الخبر عن الآخرين لبعض الوقت ، وأخذت تتبع أخبار الحبيب الجديد ، حتى جاءتها بعد فترة وحذرتها بأن حميد يشتهر بعلاقاته المتعددة مع عدد من الفتيات ، فهو يبدأ العلاقة بقوة واندفاع وإعجاب واهتمام بالغ ، ثم سرعان ما يهدأ ويتنصل منها ويتركها كسيرة مصدومة ، شكرت فاطمة صديقتها لاهتمامها وحرصها
على حياتها العاطفية ، وكذلك فعلت الأمر نفسه مع غيرها من الصديقات اللواتي تعاقبن على نصيحتها من مغبة الاستمرار في علاقتها مع من تعلق قلبها به ، لكن حميد قلب كل التوقعات وتقدم يخطبها من أهلها ، فلما رفضوه في بداية الأمر ، رضخوا لرغبة ابنتهم في الاقتران به ، واستجابوا لتهديدها المباشر بالهرب معه ، وتحويل الأمر إلى فضيحة في المجتمع ، وبدأت فاطمة تعيش أحلى لحظات حياتها ، خاصة بعدما أكد لها انه وجد الفتاة التي لطالما يبحث عنها طوال حياته ، تمايل قلبها فرحا بما سمعته منه ، حتى وصل بها الحال ، أن أخرست جميع الألسنة التي كانت تلوك حبيبها ، وتمضغ سيرته أمامها ، لدرجة أنها كانت تستعجل موعد الزفاف ، دون أن تترك أي مجال لعقلها
لكي يتعرف على الطرف الآخر بصورة أكبر، قبل أن يوافقها على الارتباط به بشكل نهائي ، فالقلب لم يترك مساحة لغيره ، وفضلت هي أن تترك الأمور تمشي في مسارها الطبيعي الذي اختارته بنفسها ، فليس بمقدروها الآن كبح جماح حبها الهائج والمندفع بقوة نحو الارتباط بحميد ، ومضى عام على الزواج ، وأصبح لفاطمة طفلة جملية ، تعيش في كنف أمها وحيدة ، تتوق إلى رؤية والدها الذي سمعت به ولم تراه ، لأنه رمى زوجته فاطمة في الشارع ، بعدما ألحفها بورقة الطلاق ، وهي تحمل طفلته في أحشائها ، وأبدلها بامرأة أخرى أجنبية ، قادمة من بلاد القوقاز ، يقال والله العالم بأنها تعيش معه دون زواج بعدما تعرف إليها ، واستقدمها لتعيش معه لحظات الحرام ، وهي الآن تعيش في منزل فاطمة التي اشترته بأموالها كهدية له في بداية الزواج .
فقد انقلب حميد على مملكة الحب التي شيدتها فاطمة ، بعدما استولى على كل ما تملك من أموال وعقارات ورثتها عن والدها المتوفى ، عبر توكيل خاص استطاع الخبيث عن يحصل عليه أثناء غفلتها العاطفية ، حتى سيارتها الجديدة فقد باعها واستبدلها بسيارة أخرى أهداها للعشيقة الجديدة ، صحيح إن فاطمة قد وجدت في حميد كل مواصفات شريك الحياة التي تتمانها كل فتاة ، كالوسامة والجمال والمرح والنجاح الوظيفي والقدرة المالية والعائلة المرموقة ودفئ المشاعر والعاطفة الجياشة ، لكنها وقعت في شر أعمالها عندما اكتفت بتلك المواصفات التي تمثل القشور الظاهرة ، ولم تشغل نفسها بالتعمق في شخصيته الحقيقية ، واعتقدت بأن الزمن كفيل كي تعرف عنه
المزيد من التفاصيل الأخرى ، غير أن هذا الشيء لم يحصل ، لأنه لم يترك لها الفرصة لفعل ذلك ، حتى صدقت النبوة وانسحب حميد من حياتها كما فعل مع أخريات من قبلها تعرف على بعضهن لاحقا ، وعاشت فاطمة تتجرع الألم وهي تصارع الأسى والإحباط ، لكي تنسى حميد هذا ، لكن الآم الهجران والصدمة كانت تفرض نفسها على قلبها طوال الوقت ، وتتجدد الغصة بين الفينة والأخرى .
لقد تعجلت فاطمة حينما قررت الارتباط بالشخص الذي اختاره قلبها وليس عقلها ، لمجرد أنها أرادت الارتباط بأي شخص كان ، وكغيرها من الكثير من الفتيات ، انساقت بكل قوتها وراء مشاعرها العاطفية ، دون أن تتأكد هل يناسبها هذا الشخص أم لا ، ولذلك كان الأساس الذي شيدته واهيا ، كبيت العنكبوت ، انقلب بمجرد أن تعرض لأول موجة خفيفة في الحياة العملية ، وليس هذه القصة إلا نسخة مكررة من القصص الكثيرة التي صادفتها في مجال عملي مع شيء من السيناريو المختلف . فالنتيجة غالبا ما تكون واحدة ، والسبب الرئيس هو سوء الاختيار .
الآن أدركت فاطمة أن إخمادها لمشاعر النصح والحكمة والتروي ، التي حاولت الانبلاج ما بين العاطفة المتدفقة التي انتابتها آنذاك ، واندفاعها نحو حميد دون تعقل ، هما السبب في تحطيم قلبها وحصولها على ورقة الطلاق ، لما سألت فاطمة عن تجربتها هذه ، أطلقت ضحكة ممزوجة بالحزن الدفين وقالت لي بالنص : يا أستاذ خليفة لا يوجد على وجه الأرض شخص لم يتعرض لمثل هذا الموقف ، فأنا أعرف الكثير من الزميلات اللواتي مررن بنفس التجربة الخائبة ، علاقات عاطفية زائفة ، ثم انهيار .
للأسف نحن النساء نشعر دائما بحاجتنا الشديدة إلى الحب والعاطفة عندما نرتبط بشخص ما ، لدرجة إننا لا نستطيع أن نسيطر على مشاعرنا وعواطفنا فنتركها تتغلب على عقولنا ، وهي تجرفنا نحو هذا المستنقع الآسن الذي يتفنن به الرجل اللعوب ، فنتسرع في اتخاذ القرارات ، هي قاصمة لظهورنا دون أن نعي ذلك إلا بعد فوات الأوان ، فلما وقفت على عتبة الباب لم تزد على بضع كلمات كان من بينها صدقوني أرى كأن الذي حصل لم يكن سوى مجرد خيال لم يضاهي واقع الحال فلا حول ولا قوة إلا بالله .
ثم أغلقت الباب وانصرفت ، وهي ترفع يديها على وجهها وكأنها تمسح شيئا قد تساقط من عينيها .