تعلقت بعلوم الأحياء منذ سن مبكرة. في بادئ الأمر، في فترة نشأتي في المكسيك، كنت اقرأ سير العلماء المشهورين كلويس باستور وألبرت أينشتاين. وذات مرة تلقيت ألعاباً تعتمد في مبدئها على الكيمياء هدية فكنت مأخوذاً بها. ثم أتى اليوم الذي حصلت فيه على أول مجهر فكان ذلك مفتاح طريق حياتي.
كان للعالم والمخترع أنتوني فان ليونهويك الكثير من الأفكار المدهشة والاختراعات من أهمها المجهر. من ذكرياتي عن أيام الطفولة جلوسي في المنزل حاملاً المجهر وواضعاً قطرات من الماء غير نظيفة على شريحة. كان ما شاهدته من حركة الجراثيم والبكتريا هو أروع مشهد يمكن أن أتخيله. أكثر ما أدهشني هو مقدرتي على رؤية أشياء لم أكن لأراها لولا وجود المجهر.
ما عزّز فضولي نحو العلوم هو تلك الرغبة الملحّة في اكتشاف طريقة عمل الطبيعة.
بعد انتهائي من المرحلة الثانوية انتسبت الى جامعة المكسيك الوطنية المستقلة حيث نلت إجازة في الهندسة الكيميائية. وهنا حدثت نقطة تحول في حياتي.
قررت ان أدرس في ألمانيا لنيل شهادة الماجستير. كان ذلك التحول قاسياً، فالناس مختلفون جداً واللغة صعبة. درست باجتهاد في ذلك العام الذي مرّ بصعوبة حتى تمكنت أخيراً من تعلم اللغة. المفارقة المثيرة للسخرية هي أني تعلمت اللغة الألمانية قبل أن أتعلم الإنكليزية.
وبالإضافة لتعلم اللغة، كان عليَّ أن أتعرّف على ثقافة وحضارة ذلك البلد وهو أمر لم يكن بالسهل ايضاً.
فحتى طريقة تعليمهم كانت أشبه ما تكون بإعطاء الطالب عدداً من الكتب في أول يوم له في الفصل الدراسي الأول، وسؤاله أن يقرأها كلها ويعود في اليوم الأخير من الفصل الدراسي الأخير- وهذه طريقة مختلفة عن طريقة الدراسة في أمريكا الشمالية. ولكنني في النهاية تمكنت من نيل شهادة الماجستير في الكيمياء. وهنا آن أوان اتخاذ قرار صعب آخر.
أين سأتوجه لدراسة الدكتوراه – إن ماكنت أتطلع إليه الآن، برغم كون الشهادتين اللتين نلتهما كانتا في الهندسة الكيميائية والكيمياء الاساسية، هو دراسة شيء لم يسبقني إليه أحد. لذا قررت الانتقال إلى الولايات المتحدة والانتساب إلى جامعة كاليفورنيا في بيركلي. وقد كان ذلك القرار صائباً ومن أفضل القرارات التي اتخذتها في حياتي.
أفضل درس تعلمته في بيركلي أن العلوم تكون شيقة ومفيدة أكثر عندما تعمل عليها ضمن فريق. قبل بيركلي، كان تفكيري منصباً على القيام بأبحاثي بشكل منفرد لأن ذلك كان يستهويني، ولم أكن مهتماً بما يمكن أن أقدمه للعالم من إسهامات مفيدة لتحسينه.
عندما كنت صغيراً في المكسيك لم يكن لأصدقائي أي طموحات مثلي، بل كانوا من النوع المعادي للمدرسة وللدراسة ولجو الصف، ولم يجدوا أي متعة في المدراسة.
على كل حال لا يعني ذلك أنني لم أكن مستمتعاً بصحبتهم، ولكن كل ما في الأمر انهم لم يكونوا يفكرون بالطريقة التي أفكر بها.
مع تطوير حبي للبحث، بدأت أفهم ضرورة العمل الجماعي فيما يتعلق بالعلوم والأبحاث العلمية. فهذا النوع من العمل ينطوي على كثير من المتعة عندما تتشارك به مع الآخرين. مع الوقت، أدركت أن الأبحاث التي أقوم بها كانت توسع من إطار العلوم وآفاقها؛ إذ كنت قد بدأت بفهم الليزر ومظاهر عمل الجزيئات، التي كانت جديدة على العلوم، وإمكانية تطبيقها.
وهذا ما لفت نظري إلى علم البيئة، وهو علم من شأنة أن يسهم في تقديم الفائدة للإنسانية جمعاء.
بعد نيلي الدكتوراه قررت الاطلاع على كيفية عمل الغلاف الجوي. في السابق كنت أهتم فقط بالمواد الكيميائية وتفاعلاتها، أما اليوم فقد بدأت أربط بينها وبين الواقع، انتقلت إلى إيرفين للانضمام إلى فريق من العلماء عكفوا على دراسة تاثير بعض المركبات الصناعية (خاصة الكلوروفلوروكربون) فور انطلاقها على الغلاف الجوي.
استخلص العلماء في السابق أن ذلك المركب ثابت وهو بالتالي ليس ضاراً بالبيئة، فتحدّى فريقنا ذلك الادّعاء واستطعنا ان نثبت أن تلك المركبات تتحلل في طبقات الجو وتؤثر سلباً في البيئة.
لقد برز السؤال الذي كان يتردد في أذهاننا حول ما إذا كان شيء سيحدث لذلك المركب في البيئة إلى الصدارة بعد انتهاء أبحاثنا، وكان الرد عليه بالإيجاب طبعاً.
بناءً على اكتشافنا ذاك تنبّأنا بتأذَّي طبقة الأوزون، وقد ثبتت صحة نطريتنا بعد أن قام العلماء بأبحاث وتجارب عديدة للتأكد من ذلك.
إن اكتشافاً كهذا هو من النوع الحلو المر. فنحن لم نرد أن يكون هناك خلل أو ضرر ما، ولكن كل ما في الأمر أننا رغبنا في العمل على كشف الحقائق، وقد تمكنا من ذلك. والآن، تتخذ العديد من الإجرائات لحل تلك المشكلة والحد من تفاقمها. ولو أننا لم نكتشف تأثير الكلوروفلوروكربون الضار لما تمَّ اكتشاف ذلك الثقب في طبقة الأوزون.
إن أفضل نصيحة يمكنني أن أقدمها للآخرين هي ألا يخشوا من التفكير عكس المألوف، فلا بأس من الآبتكار ومن الإتيان بالأفكار الجديدة غير المألوفة أو المطروقة بعد. لا تقلقوا من الضغط الذي سيمارسه عليكم منافسوكم. لقد كان العلم وما زال بالنسبة لي عظيماً، وليس لدي مشكلة في أن أكون مختلفاً.
لا تخشوا من فكرة أن تكونوا مختلفينن، فقط أجيدوا القيام بعملكم. عندما أسترجع ذكريات طفولتي وفترة نشأتي، أتساءل ما إذا كنت سأنجح هذا النجاح لو لم أكن مختلفاً.
كان رفاقي في تلك الفترة يرون أن كل ما يمت للمدرسة بصلة غير مجد ولا يستحق العناء، أما أنا، فقد رأيت أن كل ما أرغب به يمكن أن يتحقق لي من خلال المدرسة.
ولحسن الحظ، فإنني بالرغم من معرفتي بمدى أهمية أصدقائي لي على الصعيد الاجتماعي، إلا أنني أدركت أنه عليَّ ألا أستسلم أمام ضغوطهم، كما أدركت بأنني ما اردت أن أحقق ما أتمنّاه، عليَّ الاستماع إلى صوت قلبي فقط.
لو أنني لم أستمع لصوت قلبي لما درست العلوم، ولما تمكنت من تقديم الفائدة للبيئة وللعالم.
لم أُبَالِ يوماً بكوني مختلفاً، وهذا ما ساعدني على النجاح وتحقيق ما أصبو إليه.
———————————
المصدر: كتاب إنتبه! أنت مبدع