كي لا تنكسر التحفة !!
د. محمود بن سعود الحليبي .
يحدث ـ أحيانا ـ أن نفاجأ بصورة نشاز لبعض من تربطنا بهم علاقة رحم أو زواج أو إخاء أو صداقة ؛
صورةٍ لم نعتد عليها من قبل ؛ فنصاب بدهشة تعقبها خيبة أمل تتنامى فيما بعد لترحل بنا بعيدا ـ إذا تركنا حبل أفكارنا على غاربها ـ لتصل بنا إلى إحباط ينتهي بعلاقاتنا إلى أبواب موصدة ؛ أقفلتها في وجوهنا جملة من النزغات الشيطانية التي تطفح عادة في مثل هذه المواقف المحببة لشياطين الإنس والجن ! ؛ كالخصام ، والجدال ، والعناد ، والشك ، وفقدان الثقة ، والكذب ، والمكر ، والكيد ، والحقد ، والتهاون في الحقوق ، والقطيعة ، والانتقام ، واليأس ، والحزن ، و … .
كل ذلك لأننا نتعجل كثيرًا في الحكم على الصورة الجديدة التي فوجئنا بها مؤخرًا ، متجاهلين ـ ساعتها ـ أو متناسين أمورًا كثيرة منعت من الاحتكام إليها أو من مجرد التأمل فيها دهشةُ الموقف وفجأةُ الحدث ، وما يسمى بالخوف المثالي ؛ الذي يترك في نفوس كثير من اللطفاء نسقًا مثاليا موروثًا ؛ لا يمنحهم الفرصة لرؤية ما يخالف ما نشأوا عليه أو اعتادوه بحكم بيئتهم ، أو تربيتهم الخاصة ، أو يناقض ما حلموا به في فترة من فترات حياتهم قبل تعرّفهم على من يحبون أو يصاحبون ؛
والأمر كل الأمر أننا بحاجة إلى ما يسميه بعض المتخصصين ـ في فنون فض النزاعات البشرية ـ التقاط مشهد سينمائي للحدث الجديد – ليشاهده المتخاصمان من بُعد ، وبَعد زمن يمكّنهما من الهدوء والروية ؛ إنها طريقة عجيبة تمنح المتأمل فرصة لمعرفة أشياء كثيرة ؛ منها :
– أن وقوع الإنسان في الخطأ جبلّة فيه ، وطبيعة من طبائعه ؛ فـ (( كل بني آدم خطّاء وخير الخطائين التوابون )) ( رواه الترمذي وابن ماجه ) ، وليس الخطأ أن يقع صاحبك في خطأ ، ولكن أن يستمر فيه ويصرّ عليه ؛ والناس في هذا مراتب ودرجات ؛ تبعا لإيمانهم الذي يزيد وينقص ، بقدر هداية الله لهم وتوفيقه ، وحرصهم على تقوى الله ومراقبته ، وابتغاء مرضاته ، وهو أمر ليس لك فيه حول ولا قوة سوى النصح والوعظ بالحسنى ، والوصية بالحق ، ووصية نفسك في ذلك كله بالصبر .
– وأن ما وقع فيه صاحبك من خطأ ؛ إنما هو عارض أفرزته ضغوط داخلية أو خارجية ، وربما ظروف متراكمة أو طارئة ، قد يعرض لك مثلها لو قدر الله لك ذلك ، ولعل سلوكك أو تقصيرك في أمر يتعلق بعلاقتك به كان سببا من أسباب ذلك الخطأ ! ،
ثم إن بعض المخطئين يقعون في أخطائهم من حيث لا يشعرون بمدى ما يسببه بعض أخطائهم لأنفسهم وللآخرين من أذى حاليٍّ ومستقبليٍّ ، وجراح نفسية ومعنوية تحتاج ـ حتى بعد الاعتذار منها أحيانا ـ زمنا طويلاً كي تمحو آثارها عوامل كثيرة تعين على اندمالها ونسيانها ؛
ولعل من أهم أسباب عدم إحساس المخطئ بآثار استمراره في خطئه تزيين الشيطان له عمله ؛ وإلى ذلك أشار القرآن الكريم في قوله تعالى : (( أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون )) . ( سورة فاطر ، الآية : 8 ) ، وفي قوله تعالى : (( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا . الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا )) . ( سورة الكهف الآية :104 ) .
– وهب أن ما وقفه صاحبك من مواقف خاطئة تجاهك كان متعمِّدا فيها ؛ فإنه امتحان له في التقوى ، وابتلاء لك فيمن تحب ، وهي نعمة كبرى لك من وجهين :
الأول : أنه ابتلاء فيه تذكير وتطهير وتمحيص ، وربما كان عقوبة معجلة لذنب أذنبته ولم تأبه له ؛ فيكون في ذلك حث للنفس على طاعة الله والتقرب إليه ، واللجوء والتوبة إليه ، والتوكل عليه ، وتسليم الأمر له ، وانتظار الفرج الذي هو من أعظم العبادات والقربات ، والتزود من الإيمان بقدر الله خيره وشره ، وهو من أعظم مراتب الإيمان ؛ فـعن صهيب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( عجبا لأمر المؤمن كله خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له )) . ( رواه مسلم ) .
وكم هو جميل أن تجعل نصب عينيك أن العسر لا يدوم ، كما أن اليسر لا يدوم ، وأن لكل أجل كتابا ، وأن الله قد جعل لكل شيء قدرا ، وأنه سبحانه يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب ، وأن الآخرة خير وأبقى ! .
وأما الوجه الآخر : فلعل ما أحدثه صاحبك تنبيه من عند الله لك ، وكشف لحاله لك ؛ لتكون إما الناصح له ومن ثم السبب في إصلاحه ؛ فتفوز بأجر هدايته ، وصلاحه ، (( … فو الله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم )) ( رواه البخاري ) .
وإما أن تداريه وتصبر على أذاه ؛ فتفوز بالأجر الأعظم الذي وعد به حبيبنا صلى الله عليه وسلم في قوله : (( المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم )) . ( صححه الألباني ) ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم : (( ليس الواصل بالمكافئ ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها )) . ( رواه البخاري ) ، وليكن انتقامك منه كما يقول ابن الجوزي في ( صيد الخاطر ) عفوك عنه ؛ فإنه عليه أشد أنواع الانتقام .
وربما كان دوام عفوك عنه مدعاة ليقظته من غفلته ، وعودا إلى رشده ، وتأليفا لقلبه ؛ قال تعالى : (( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم )) ( سورة : فصلت ، الآية : 34 ) .
وإما أن تعدل عن مصاحبته لسوء حاله وشقائه ـ والعياذ بالله – ؛ وذلك إن صعب عليك أمره ، وخشيت على إيمانك ونفسك من شره وسوء خلقه ؛ وتذكر قوله تعالى : (( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين )) . ( سورة القصص ، الآية : 56 ) ، وحينئذ ينبغي لك أن تحتسب ذلك عند الله ؛ مهما بلغ حبك له ووفاؤك في محبتك له ، وعزّ عليك فراقه ؛ (( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون )) . ( سورة البقرة الآية : 216 ) . ، ومن ترك لله شيئا عوضه الله خيرا منه ! .
واعلم أنك حين تملأ قلبك بحب الله وتعمل من أجل ذلك ، وتتقرب إليه سبحانه بما يحببه إليك ؛ فإنك تصرف حبك لمن لا يتغير حبه عمن أحبه وأخلص له ، وتقضي وقتك مع من لا ينتهي الأنس بذكره ، ثم إنه حب جليل يحميك من شرور الطالحين ؛
فـعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن الله قال : من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته )) . ( رواه البخاري ) .
بل إن في هذا الحب عونًا لك على مصاحبة الصالحين ، وسببا في حبهم لك ؛ وهو حب غالي الثمن ؛ لأنه عدتك وعتادك في الدنيا والآخرة ؛ (( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين )) . ( سورة الزخرف : 67 ) .
وقبل الختام إليك أخي القارئ قائمة ببعض الأخطاء التي يقع فيها بعض المصلحين الغيورين في أثناء التعامل مع المخطئين ، وتكون في الغالب سببا في تأخر العلاج والصلاح :
1- الاستسلام للعاطفة ، وتغييب دور العقل في مواجهة المشكلة .
2- عدم الحزم في الحد من الأخطاء الجسيمة المتعدية .
3- عدم ترك الفرصة أمام المخطئ ـ بعد نصحه ـ لتصحيح خطئه بنفسه ، لا سيما الخطأ الذي لا تترتب على استمراره عواقب وخيمة .
4- الوقوع فيما يخالف المثالية ؛ وإلا فأين إعداد النفس لمثل هذه المواقف المبنية مواجهتها على الحلم والتأمل والتروي ومن ثم التسامح وقبول الاعتذار.
5- فقدان قوة الصبر التي عادة ما تكون عاقبتها الظفر .
6- استعظام المشكلة والاندهاش من أحداثها ، والغرق في تفاصيلها بحيث تعتم الصورة ، وتعمى الطريق ، ويطغى اليأس ! .
7- ضعف الإيمان بالقدر خيره وشره ، والتشاؤم ، وتناسي : أن السراء لا تدوم ، وأن الضراء لا تدوم ، وكلاهما بأمر الله وله في كليهما حكمة .
همسة أخيرة :
تذكر أخي الكريم أن الإطار لازال جميلاً يحيط بلوحة أصيلة التقاسيم والألوان ، وإنما هي غلالة من غبار ؛ تعتري كل تحفة غالية الثمن تحتاج شيئا من الاهتمام والعناية والصقل ، ولكن ليكن ذلك برفق لكي لا تنكسر ؛ ولتعود كما كانت ، بل وربما إلى حال أحسن من حالها الأولى ! .