هل تشعر أحياناً بأنك راضٍ عما تفعله؟ هل تشعر بأنّ الكثير من تصرفاتك تقوم بها بدافع من الأسرة أو المجتمع؟ إذا كانت الإجابة بنعم، فأنت أحوج ما يكون إلى أن تجد ذاتك وتتعرف إليها وإلى إحتياجاتها، حتى تجد الراحة والسعادة.
قال سقراط: “إنّ أسعد ما يكون عليه الإنسان، هو عندما يدرك أنّه يعرف نفسه جيِّداً، وأتعس ما يكون عليه هو عندما يعرف أنّه لا يعرف نفسه جيِّداً”. مقولة سقراط هذه، هي تجسيد لمبدأ مهم لدى الإغريق في ذلك العصر، ألا وهو مبدأ “معرفة الذات”، لأنّ إستكشاف الذات مرحلة تسبق مرحلة الإنجازات الشخصية الكبرى، وهذا ليس فقط بالنسبة إلى الإغريق، بل أيضاً بالنسبة إلى بعض الحضارات الشرقية القديمة.
– الناس ومعرفة الذات:
إذا تأمَّلنا المجتمع المعاصر، سنجد أن رغبة الإنسان في أن يعرف ذاته لم تكن أبداً أقوى مما هي عليه اليوم. ودليل هذا التطور، هو الأعداد الكبيرة التي تصدر من الكتب والأبحاث في مجالات العلوم الإنسانية وتطوير الذات. لكن، وبعيداً عن هذه الظاهرة، هل يمكننا أن نقول إنّ البشر أصبحوا يعرفون أكثر عن أنفسهم؟ وما معنى أن تعرف ذاتك؟ هل تكفي التجارب التي راكمتها منذ أيام طفولتك وحتى الآن، لكي تقول إنك قد بلغت سن النضج؟ ولتقول: “نعم أنا أعرف نفسي جيِّداً، وأعرف جيِّداً كيف أتصرف”.
معرفة الذات غالباً ما تحدد خطأ في مجرد معرفة مميزات هذه الذات وعيوبها. وتصبح تلك المعرفة جامدة في إطار قناعة واحدة تعوق صاحبها عن أي تقدم أو رغبة في التغيير، حيث يقول دائماً: “هكذا أنا ولا يمكنني فعل شيء”. تتطلب معرفة أصل الخلل والتغلب على الخوف من المجهول، بحثاً وتنقيباً عميقين ودقيقين وشجاعين.
الشجاعة الحقيقية هنا، هي أن تواجه ذاتك، وأن تتجرئ على أن تنظر إلى نفسك التي كانت مخبأة في الظلل، وذلك من دون أن تسعى إلى محاربتها ولا إلى تجميلها.
وفي الغالب، يكون مفيداً لك أن تستشير أخصائياً لكي يساعدك على مهمة التعرف إلى ذاتك، لأن محاولة تسليط الضوء على الخلل في شخصيتنا، أو الموروث السلبي الذي ورثناه على الأجيال السابقة لنا أو عن المجتمع، لا يخلو من مقاومة تكون عنيفة أحياناً. والسعي إلى أن تكون نفسك هو عمل يعتمد على سعيك إلى التحرر من كل ما ليس أنت، مثل إنعكاس الأفكار الجاهزة لدى الوالدين على أفكارك أنت، تبنّيك الإعتقادات السائدة من حولك، سواءٌ أكانت عائلياً أم مجتمعياً وتصرّفك وفقها. التخلص من هذا، أو مرحلة “التنظيف”، تؤدي إلى ظهور وعي مدرك بشكل أوضح لمزاياك وقيمتك وحتى عيوبك. وهذه الأخيرة ما هي في الواقع إلا مزايا، في طور التخمّر، لم يتم تشكيلها وتنميتها بعد.
للأسف، نلاحظ أيضاً أنّ العديد من الناس اليوم لايزالون يعيشون في جهل تام لأنفسهم، ولحقيقة ما هم عليه، يُجهدون أنفسهم لكي يعطوا معنى لحياتهم، ولكنهم يجدون أنفسهم مرّة بعد أخرى أسرى الفشل، وأسرى خوف عميق يشلُّ حركتهم.
– معرفة الذات حرِّية:
الجهل والظلام الذي يخفي الحقيقة، يجعلان من الإنسان تابعاً وعبداً لمعتقداته وآرائه، وذكرياته التي باتت راسخة، بينما معرفته وتأمله طبيعته وما هو عليه بالفعل، يعتقه ويجعله حرّاً في أن يكون نفسه وليس أحداً آخر، هذا الجهل أو الظلام في حد ذاته، يكون أحياناً ضرورياً من أجل التوازن النفسي للبعض، لأنّه يشكل حماية طبيعية للإنسان مما يجهله عن نفسه، أو من الصورة البشعة لذاته والتي قد يصدمه أن يراها على حقيقتها.
ويجب أن يجري العمل المتواصل من أجل التعرف إلى حقيقة الذات بموازاة مع عمل آخر، الهدف منه تقوية الشخصية ودعمها حتى تصبح شيئاً فشيئاً جاهزة للخطوة المقبلة، وهي تقبُّل أن ترى نفسها على حقيقتها مهما تكن بشعة، أن تراها كما هي فعلاً وليس كما تتخيلها.
لهذا، فمن الخطر أن يتم وضع شخص أمام حقيقته العارية، قبل أن يكون مستعداً لذلك، ومن دون أن يكون راغباً فعلاً في ذلك.
– جني الثمار:
أولى ثمار هذا العمل، هي الإحساس بحرِّية سيكولوجية. فالمرء، عندما يدرك أنّه لم يعد يتصرف بشكل ميكانيكي تحت سلطة عادات ومبادئ ليست مبادئه، فهو سيصبح شخصاً يختار عن وعي وقناعة ما يريده لنفسه. وثمّة ثمار أخرى تظهر بشكل طبيعي خلال هذا العمل. ومنها: الثقة بالنفس التي تجعل المرء أقل قلقاً وتوتراً في جميع الظروف والأوضاع الحياتية. وأيضاً، هناك شعور المرء بأنّه يأخذ مكانه الصحيح، حيث يمكنه التعرف إلى إمكاناته ومميزاته وحتى نقائصه، وأن يتجه إلى نشاط يتناسب مع ذاته وطبيعته الحقيقية. وإحساس الإنسان بأنّه في مكانه ينتج بدوره حالة من الرضا.
عندما يمارس المرء كل يوم عملاً يحبه ويعرف أن يتماشى مع قيمه وأهدافه وهويته، فإنّ هذا يكون مصدر فرح وسعادة له، ويُسهم في تغيير النظرة التي يحملها عن العالم والآخر والمجتمع، كما أنّه سيرى بصورة أوضح القيمة الحقيقية لكل واحد.
معرفة الذات أمر أساسي، سواء أكان على المستوى الشخصي أم الإجتماعي. والمهم هو أن يكون كل شخص نفسه وليس شخصاً آخر، وأن يتصرف كما يحب ويتمنّى، وليس كما يحب الآخرون أن يكون. أن تكوِّن نفسك هو البداية الرئيسية التي إن فُتحت لك تفتح لك كل الإمكانات لتتطور وتُنمّي ذاتك على جميع المستويات.
وعلى عكس ما قد يفهمه البعض، فهذه ليست دعوة إلى اتّباع الرغبات، تماماً كما يفعل الأطفال باستهتار ولا مسؤولية، ولكنها دعوة إلى فعل ما يفعله الأطفال في التصرف بعفوية مع إدخال قدر من الخبرة والمعرفة بالذات على ذلك. إنها رحلة ممتعة رحلة البحث عن حقيقة الذات، كل ما يلزمها هو الجرأة.