« الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنَا : لِمَنْ ؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ »
إن من الخطأ حقًا أن يعتقد بعض من مَنّ الله عليهم بالهداية والاستقامة، حتى غدوا في طريق الدعاة أو طلبة العلم، أو حتى من عامة الناس الذين سلكوا طريق الإيمان وارتضوه، من الخطأ أن يعتقدوا أنهم قد بلغوا درجة كمال الإيمان، هذا الاعتقاد الذي يوهمهم بشعور شيطاني خفيّ ليسقطهم في شباك غاية في التعقيد، حتى تبدو عليهم عدة مظاهر قد لا تتبين لهم، ولكنها غاية في الظهور أمام الناس. وإليك بعض هذه المظاهر التي أطلب من نفسي وألتمس منك أيها الصادق مع نفسه أن نبحث عنها في أنفسنا، فربما كانت فينا؛ لنقف عليها ونعالجها قبل أن يستشري داؤها، وينتشر وباؤها، ولقد رصدت لك عشرين مظهرًا، إليك بيانها:
1) أن يشعر أحدنا بأنه فوق النصيحة، وأنه غدا ناصحًا، ولا يقبل أن يكون منصوحًا؛ فإن من المفاجأة له أن يتجرأ أحد من الناس بنصيحته، وقد يبدي شيئًا من قبولها لكنها تكون على نفسه أثقل من الجبال، وهنا يتثاقل عن العمل بها، وربما يبدأ صفحة كره وبغض، أو على الأقل تجنّب لهذا الناصح الأمين واستثقال لمجالسته. فأين هذا المنصوح من قول النبي صلى الله عليه وسلم: « الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنَا : لِمَنْ ؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ » رواه مسلم. فهل يحب من يأبى النصيحة أن يبقى على زلـله من دون أن ينبهه أحد على ذلك، فيكون بذلك عرضة للاستمرار فيه، والوقوع في عواقبه؟
2) ومن هذه المظاهر: البحث عن الفتاوى الشرعية التي توافق هواه أو تحقق له مصلحة شخصية، حتى لو أدى هذا الأمر إلى تغيير وجهة نظر كانت راسخة في ذهنه، أو عليها عمله فترة طويلة، وإن أشبه شيء لهذا التصرف هو ما يطلق عليه العلماء بتتبع الرخص تشهيًا ولعبًا بالدين وأحكامه.
3) ومن هذه المظاهر: التقليل من عمل الآخرين، والتحقير من جهودهم، ففي الوقت الذي يتفانى عدد من المخلصين في خدمة الدين ورفعته والدعوة إليه، نجده لا يعرف إلا النهش في نواياهم، والقدح في مقاصدهم، ويحاول جاهدًا في صرف ألوان الإكبار عنهم، وقد يصل الأمر إلى السخرية بهم، وتكمل فرحته إذا ظهر خطأ أحدهم. ومطية ذلك كله سوء الظن، وعدم صفاء القلب، ووالله لا أجد ترهيبًا لمثل هذا المظهر أكثر من قول الله تعالى: { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }.
4) ومن هذه المظاهر: الانشغال بالجزئيات، والتفريط في الأمانات، وياله من مظهر لا يتفق أبدًا مع مظهر الالتزام والصدق مع الله، فهل من الدين أن ينشغل المرء ببعض المندوبات حتى يؤثر هذا على أداء العمل والأمانة التي يجب القيام بها؟ هل من الالتزام أن يتظاهر بالمرض أو التعب ليتخلّف عن حضور الدوام الرسمي؟ وهل من التمسك بالإسلام أن يفرط في رعايته لأسرته وتربية أولاده بحجة نشر الدين والدعوة إليه؟! وهل من الاستقامة أن يتخذ المرء الكذب مطية لدفع تهمة التقصير في المسؤولية الملقاة على كاهله؟! يقول الله تعالى: { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }.
5) ومن هذه المظاهر: حب الظهور والقيادة ولو على شيء يسير، بل ربما يجاهد ويكافح من أجل هذا الأمر، وما علم أن تحمل المسؤولية والأمانة حمل ثقيل على الأتقياء والمخلصين. « عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَرَجُلانِ مِنْ بَنِي عَمِّي، فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمِّرْنَا عَلَى بَعْضِ مَا وَلاّكَ اللَّهُ، وَقَالَ الآخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّا وَاللَّهِ لا نُوَلِّي عَلَى هَذَا الْعَمَلِ أَحَدًا سَأَلَهُ وَلا أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ » رواه مسلم.
6) ومن هذه المظاهر: جلافة الخلق، والترفّع على عامة الناس وضعفائهم، فإن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }، فإن الرفق -أيها الموفق- ما دخل في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه، ومن تواضع لله رفعه.
7) ومن هذه المظاهر: الافتخار بقوة الجدل، وطول النفس في المراء، ولو بالحق، أو في أمور العلم ومسائله، فإن رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: « مَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَهُوَ بَاطِلٌ بُنِيَ لَهُ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَهُوَ مُحِقٌّ بُنِيَ لَهُ فِي وَسَطِهَا، وَمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ بُنِيَ لَهُ فِي أَعْلاهَا » رواه الترمذي وقال حديث حسن.
8) ومن هذه المظاهر: ضعفه أمام الفتن، فإن في الشدائد تتميز الهمم العالية، وتثبت القلوب الصافية، ويأبى صاحب البناء المهلهل إلا أن ينهار، ويسقط خائبًا، وإن هذا الانهيار المحسوس ليدل على انهيار داخلي في قلب الإنسان وإيمانه، ولقد حكى الله هذا المشهد في أروع بيان فقال: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يِقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ }.
9) النظرة السوداء للحال الذي يعيشه المسلمون اليوم، وتصوير الواقع بأنه مظلم لا بصيص فيه للأمل، وإكثار الكلام عن وجود أنواع الفساد وكثرتها، من دون أن يكون للمبشرات في حديثنا نصيب، ولا لأخبار النصر في مجالسنا وجود، الأمر الذي يزيد من هزيمتنا النفسية، ويصيب الأنفس المترددة بالتخاذل، وما كأننا -أيها الأحبة- نقرأ في كتاب الله تعالى: { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ }، فلنملأ قلوبنا بالتفاؤل، ونحاول بدلاً من سوداوية النظرة أن نبحث عن الأخطاء فنصلحها، ونراجع الأعمال وننقحها، ولا ننشغل بالحزن على الرزايا، ولنعلم أن الحكم بالهلاك لا يأتي بالهلاك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « إِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ » رواه مسلم. ولنعلم أيضًا أن النصر لا يأتي إلا بالنصر، ولن يأتي أبدًا بالأحزان، { إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ }.
10) سرعة الحكم على ما يحدث من أحداث، ولقد أتبعنا هذه العجلة -أيها الإخوة- بتعميم الأحكام على الفرق والأشخاص، وقد افتقد هذا وذاك عوامل الحكم الصحيح؛ من الأهلية لذلك، والدراسة الوافية، والتثبت في الأمر، وإنعام النظر وطول التأمل، فأي نتيجة سوف نحصدها من زرع لم يسق بالماء الصالح للسقي، ولم يشتم الهواء الصحي، ولم ترعه الأيدي المحترفة؟! أيننا من قول الله تعالى: { وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً }، فلنترك الكلام لأهل العلم يقولون فيه بما يفتح الله عليهم، ولنمسك عن الخوض فيما لا نعلم، فإنه قارب النجاة للمجتمع، وحزام الأمان للأمة، { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }.
11) سرعة تصديق الأخبار، وعدم الاكتفاء بذلك، بل والحرص على نشرها وتوزيعها، ولا تسل عن مصادرها ما دامت شبكة الأنترنت سوف تنقل لك الحدث قبل انتهاء نصف الدقيقة من حدوثه، ولكن من هو الناقل، وما مصداقيته، وما أغراضه وأهدافه؟؟ أمر قد لا يكون مهمًا عند جملة منا، المهم فقط هو نقل خبر جديد والتلذذ بنقله، إن صدقًا وإن كذبًا، إن خيرًا وإن شرًا، ويا لها من عظة بليغة ترجع لها النفوس الطيبة عند سماع كلماتها النيرة في قوله سبحانه: { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }.
12) تقديس الأشخاص وإطراؤهم، وما لذلك من تبعات التقليد من دون نظر أو تأمل، فأصبح العمل عند بعضنا لأن فلانًا العالم قال به، ولكن لماذا قال به شأن لا يعنينا، بل ولا يريد بعضنا أن يعرف ولو سهلت له المعرفة، والمصيبة بعد ذلك تبرير الأخطاء بما لا يقبل، وتسويغ الآراء بما لا يستقيم، حتى صار بعضنا ينقد الكتاب قبل قراءته لأن القوم قد نقدوه، ويثني على الشريط قبل سماعه لأن القوم قد أثنوا عليه، فهل يضير هذا الناقد أن يتبصر بالعمل، لتكون نتائجه أكثر إتقانًا وصدقًا!! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: « لا تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا وَإِنْ أَسَاءُوا فَلا تَظْلِمُوا » رواه الترمذي.
13) ازدواجية الخلق، فكم هو جميل أن تشرق وجوهنا بالابتسامة في وجوه إخواننا وزملائنا، فإنها صدقات لا تكلف الإنسان شيئًا، وإنها مؤشر إلى الرضا، وموحية عن الارتياح، غير أن العجز هو افتقارنا إلى هذه الابتسامة وأخواتها من الرفق واللين وبسط الكلام والصبر على الأخطاء والتجاوز عن الزلات في بيوتنا وبين والدينا وأهلينا، وإسقاط الأعذار في التقصير في هذا الجانب على بساط الدعوة:
أحرام على بلابله الدوح
حلال للطير من كل جنس
أما آن الأوان لإعادة النظر في تطبيق أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم على كل شرائح المجتمع، وإعطاء كلٍ منزلته وفضله؟ أما آن الأوان لنبذ ازدواجية التخلّق، لإعطاء فرصة أكبر للدعوة بالقدوة والأنموذج، فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مع انشغاله بأمور الجهاد والدعوة والتربية والإصلاح مؤنسًا لأهله، رحيمًا بخدمه، واصلاً لرحمه، تجده القدوة في أمره كله، { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ }.
14) التفكه بما يحدث في صفوف الصالحين من مظاهر الانشقاق أو التفرق، فإنني -أيها الأحبة- يأسرني الاستغراب أحيانًا حينما أجد فئة منا لا تحسن إلا الحديث في الاختلافات الفكرية، والطرق المنهجية، ولا تسلو إلا بالقراءة في الردود المؤلفة، والأجوبة المصلتة، ويزيد على انشغاله بهذا وذاك استحقاره لك حينما يعلم بأنك لم تعلم بهذا الاختلاف، أو تقرأ هذا النقاش، غير أنه يكون في مؤخرة الركب حينما يكون المجال مجال عمل وتضحية، ونصح وتوجيه، لا أقصد التقليل من أهمية الردود العلمية، لكنها في وجهة نظري -التي ربما تكون قاصرة- أن الانشغال بها منزلةُ من نال حظًا وافرًا من علم الشريعة، أصولاً وفروعًا، أما من لم يبلغ هذه المنزلة فأعتقد أن انشغاله بها ترك لما هو أولى وأحرى.
15) من المظاهر أيضًا: أن نصحب من نهوى، لا من ننتفع به أو ننفعه، فقد تستثقل بعض النفوس مصاحبة من يجرأ على النصيحة دائمًا، أو يكون جادًا في أموره غالبًا، فتنفر منه، لتبحث عن من يغضي عن كثير من الأخطاء، ويرضى بالتقاعس والكسل، ويميل إلى الدعة والفكاهة، بحجة كثرة الهموم أو الأعمال !! والحق أن يقال: لكل مقام مقال، فالجد له وقته، والمرح له وقته أيضًا، والمسلم ينبغي أن يوازن بين جده ومرحه، فلا يكون ثقيلاً فيمل، ولا خفيفًا فيمتهن، المهم أن يحكّمَ المرء الصالح دينه في اختيار المصاحب والمجالس له، ولا يكون تبعًا لهواه في اختيار القرين والصديق. فما أجمل صداقة الأتقياء؛ أنس في الدنيا، وسعادة في الآخرة. وما أتعس صحبة الأشقياء؛ اضطراب في الدنيا، وعداوة وندامة في الآخرة، { الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ }.
16) تأخرنا في اكتشاف المواهب وصقلها، فإن من الملاحظ أن العثور على متميز في فن من الفنون، أو علم من العلوم يكون غالبًا مفاجأة لنا فحسب ، وفي حين اكتشاف نبوغه ، فإن عليه أن يراوح طويلاً في مكانه حتى يمكن للمجتمع الذي حوله أن يستسيغ قدراته، والواقع أن الخطأ هنا يقع على جهتين، أما الأولى فهو على المبدع الذي اكتشف نفسه أو اكتشفه غيره حديثًا، فإنه يقصر مع نفسه كثيرًا في عرض ما أبدع فيه على المختصين الموثوقين، أو استشارتهم في ذلك، وربما كان قليل الحِلم والصبر على تأسيس نفسه وتأصيل علمه أو فنه، فيستعجل الظهور قبل أن تكتمل عنده أدواته، أما قاطع طريق العلم والإبداع فهو ضيق الصدر بالنقد الهادف والبناء. وأما التبعة التي على المربين في التقصير في حق الموهوبين هو عدم وضع أسس دقيقة في اكتشافهم وتنميتهم، هذه الأسس التي ينبغي أن تكون واقعية لا خيالية، متدرجة ومتوازنة مع الدين، وقريبة من الطبائع السليمة؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم كانت له عناية بالمواهب، وكان من أهم وسائله في صقلها إعطاء أصحابها الفرصة في تنميتها بتحميلهم مسئوليتها، ولو نتج عن ذلك بعض الأخطاء.
فهاهو ذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول في شأن القرآن: « أقرؤهم لكتاب الله أُبَيُّ بن كعب »، ويقول عن علم الفرائض: « أفرضهم زيد بن ثابت »، وفي شأن الفتوى يقول: « أعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ». رواه الترمذي وصححه، وصححه ابن حجر والحاكم ووافقه الذهبي.
كل هذا يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الأمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين. وهذا هو النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا يأتيه أحد الصحابة وقد رأى كلمات الأذان في منامه قبل أن تشرع ويحب أن يصدح بها، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يحيل الأمر إلى بلال رضي الله عنه قائلاً: « إنه أندى منك صوتًا ».
ولم يقف الأمر عند هذا الحد مع عظمه، بل يسلِّمُ النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد قيادة جيش فيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهم وكبار الصحابة رضي الله عنهم.
فهل نحسب بعد هذا كله أننا إذا سمعنا الشهادتين يصدح بها المؤذنون عربًا وعجمًا في مشارق الأرض ومغاربها أنها قامت على ثلة من الموهوبين والحكماء والفرسان والقادة !! لو كان الأمر كذلك لمات الدين واندثرت معالمه بموتهم، ولكنهم والله كانوا أعلم منا بمستقبل هذا الدين، وأيقن منا بنصره وعزته، وأدرى منا بأنه سيظهره الله على كل الأديان، ولذلك اعتنوا بتربية الأجيال، وصقل المواهب، وتربية الناشئة، فلا يموت الفارس إلا وقد ترك من بعده فرسان، ولا يموت العالم إلا وقد ورّث للأمة علماء، وقل مثل هذا في كل علم أو فن ينفع الأمة، ويعلي من قدرها، وينصرها على أعدائها.
17) عدم اكتراثنا بأهمية الالتزام بالمواعيد، حتى أصبح من يُعرف بالدقة فيها قليلاً أو نادرًا. ألم نر كيف أثنى الله على نبيه إسماعيل صلى الله عليه وسلم بأنه صادق الوعد، وقدم هذه الصفة على صفة الرسالة والنبوة فقال: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً }، إن صفة الوفاء بالوعد صفة جزاؤها الجنة، فإن الله قال: { وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ }، وهل يحب أحدنا أن يتصف بصفة من صفات النفاق والعياذ بالله، فإن المنافق إذا وعد أخلف كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
18) عدم معالجتنا لفتور هممنا، فإن همة الإنسان عضلة من عضلاته، تحتاج إلى استمرار في التمرين لتنمو وتقوى، فإذا تركت فترت وضعفت، يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: “من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه، ومن فقه العبد أن يعلم: أيزداد هو أم ينتقِص؟”، فلنبحث عن مظاهر الفتور في أنفسنا، وعن أسبابه، ومن ثم نسأل عن الدواء والعلاج.
19) ثقل العفو على بعض النفوس، فمن منا لا تحصل بينه وبين أخيه مشادة أو اختلاف أو سوء تفاهم، ربما يكون لرأي أو قضية اجتماعية، أو تنافس على خير، أو رغبة في دنيا أو غير ذلك، ولكن ما حالنا مع صفاء النفس وخلوها من الكراهية والضغينة أو ترسبات الاختلاف والمشكلة؟
لقد آذى المشركون نبي الله صلى الله عليه وسلم أشد الإيذاء وقاتلوه وأخرجوه، ولكنهم حينما اصطفوا أمام النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وقد أصغرتهم الذلة، و حلت بهم المهانة، وأيقنوا أن يوم الانتقام منهم قد آن أوانه، قام النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فيهم قائلاً: « يا معشر قريش، ما ترون أني صانع بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: { قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ } اذهبوا فأنتم الطلقاء ».
يــا مــن تخيّره الإله لخلقه
فحباه بالخلق الزكــيّ الطـاهر
أنت النبي وخير عصبة آدم
يا من يجود كفيض بحر زاخر
ولنتذكر حينما نتردد في العفو أمرين:
الأول أن البغضاء والشحناء من نزغ الشيطان، والثاني قول الله سبحانه: { وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }.
20) استعجالنا في تحصيل النتائج، فإن العجلة في قطف الثمرة قد يؤدي بالداعية إلى حصول السآمة والملل من طريق الدعوة الطويل، بل ربما توصله العجلة إلى الإحباط أحيانًا، ولنتذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم ظل يدعو أهل مكة ثلاث عشرة سنة، ما سئم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعجل، بل قال: « لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا »، فالدعوة الناجحة تحتاج إلى: صبرٍ جميل، وتضحيةٍ عظيمة، ونظرةٍ بعيدة، وأملٍ مرتقب، فالصبرَ الصبر يا أهل الخير والإحسان، والحلمَ الحلم يا أهل الحسبة والدعوة، فإن الله وعد الصالحين فقال: { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ }.
وأخيرًا: لنعش -أخي الحبيب- الحياة التي أراد الله تعالى لعباده الطيبين، متمسكين بدين الله، ملتزمين بأحكامه، مخلصين له، نحب لأنفسنا وأهلينا ومجتمعنا الخير والصلاح، غير ملتفتين لسخرية الساخرين، متسلحين بالتوكل على الله تعالى، واليقين بتوفيقه في إصلاح أنفسنا ومجتمعنا، ولتكن خطواتك أيها المسلم المربي واثقة بالدعاء، راسخة بالعلم الشرعي، ولنسأل الله تعالى الثبات على أمره، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة، والنجاة من النار.
——————————————————————————————
ملاحظات المحرر: نُشِرَ بعضه مقالاً في النشرة الأسبوعية للجنة العلمية بكلية الشريعة بالأحساء، بتاريخ 5/3/1423هـ.
ثم مشاركة في ملتقى الرياض الثاني الذي أقيم في قاعة مركز سعود البابطين الخيري في الرياض ، 1/5/1423هـ ، ونشرت في موقع الإسلام اليوم عام 1423هـ .