كثيرا ما استوقفني هذا الحديث النبوي الشريف : (( يا غلام إني أعلمك كلمات … )) ، أستلهم منه عبرا تربوية و نفسية ، و كلما أعدت قراءته و تفكرت فيه اكتشفت شيئا جديدا ، فأنهل من هذا المعين الصافي ، أعب منه عبا ، مع أنه مجرد كلمات !
عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال كنت خلف النبي – صلى الله عليه و سلم – يوما فقال : (( يا غلام ، إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، و إذا استعنت فاستعن بالله ، و اعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، و إن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الاقلام ، و جفت الصحف )) .
خطاب نبوي للأطفال و الشباب اليافعين خاصة ، عماد هذه الأمة ، و سر نهضتها ، و مستقبلها الزاهر المشرق ، إنه من المعلم و المربي الأول محمد – صلى الله عليه و سلم – لنقف عنده وقفة تربوية و نفسية ، و الوقفات الأخرى لها أهلها ، إنها كلمات معدودة ، لكن ليست ككل الكلمات ، إنها كلمات مضيئة ؛ لهذا نتساءل : كيف نعكسها إيجابيا على واقعنا التربوي و النفسي ؟
لندخل في صلب الموضوع ؛ لأنها كلمات . إبن عباس – رضي الله عنهما – و هو حبر هذه الامة ؛ قد سمع ووعى هذه الكلمات و طبقها على حياته كلها .
إنها علاقة تبادلية ، انسجام عاطفي ، توجيه إلى مهارات تفكير عليا ، ما قيمة المرء بدون التفكير ؟!
بقي الرسول – صلى الله عليه و سلم – ( 13 عاما ) في مكة المكرمة يركز على العقيدة ، و القرآن يخاطب عقولهم و يدعوهم للتفكير ؛ ( … لقوم يتفكرون ) { يونس : 24 } ، ( …لقوم يعقلون ) { البقرة : 164 } ، ( قل انظروا …) { يونس : 101 } ، عجيب ! لماذا لم يتكلم عن الصلاة و الزكاة و الحج … و الأمور الأخرى في البداية ، إن دل هذا على شيء ، فإنه يدل على أهمية العقول و أهمية التفكير و أهمية العقيدة .
ما أجملها من طريقة : لا إكراه ، لا تهديد ، لا عقاب ، بل إقناع بالتي هي أحسن .
الرسول – صلى الله عليه و سلم – المبعوث رحمة للعالمين ، المعلم و المربي الأول ركز – كما قلنا – على العقيدة و التفكير الإيجابي الإبداعي ، بنى أساسا قويا ، فكان الأمر سهلا في تعديل أي سلوك خاطئ ، و أي أفكار سلبية ، و ليس الأمر بالإكراه أو التهديد ، أو العقاب أو العنف ، حتى في التربية و التعليم و غرس الأخلاق ، بل هي الحكمة و الموعظة الحسنة .
بعد أن رسخت العقيدة و استغل الناس عقولهم في التفكير الصحيح ، قال لهم : صلوا ، فصلوا ، و هكذا أبطل الخمر ووأد البنات … و غيرها ، كله بمجرد كلمات ، لماذا ؟! الجواب : لأن هناك عقولا تفكر بحرية ، و قلوبا بها عقيدة صحيحة .
و كذلك الاضطرابات السلوكية و الانفعالية – ( و هنا مربط الفرس ، و المغزى الحقيقي الذي نريد ) – لا يمكن التخلص منها بالأدوية فقط ، إلا إذا عدلنا الأفكار و المشاعر بشكل إيجابي بعلاج معرفي سلوكي ، ووجهناها نحو الخير و السلام ، لأن السلوك هو نتاج التفكير و المشاعر ، ( فكر سيء يؤدي إلى سلوك سيء و أخلاق سيئة ) ، ( فكر جيد يؤدي إلى سلوك جيد و أخلاق جيدة ) ..
و كذلك : العلاقة بين الطلاب و المعلمين ، و الزوج مع زوجته ، و الأب و الأم مع الأولاد و البنات … و هكذا الناس فيما بينهم : إن كان عندهم ذلك الزاد ، و تلك المعاني و القيم السامية ، سنعيش في أمان و محبة و سلام ، ستقل المشاكل ، و سنمضي سويا نحو رقي و ازدهار مجتمعاتنا .
فلا بد للمختص أن يأخذ الأمر من جميع الجوانب ، و يخاطب عقل هذا الطالب و فكره و يسأله : لماذا تدرس ؟ ألم تكن هذه ميولك ؟ … ما رأيك أن تدرس لتحقق هدفا رائعا – فالعيش بلا هدف مضيعة للجهد و الوقت – ألا وهو مرضاة الله ، ثم إفادة الناس ( و ليس للنجاح الشخصي فقط ) ، لا تشغل ” فكرك ” بأمور سلبية ، تنظم وقتك ، و تضع برنامجا ضمن خطة و استراتيجيات ، لتكون – بإذن الله – طبيبا أو مهندسا أو صيدليا أو معلما … إن وجهنا ” طريقة التفكير ” بالشكل الصحيح ستزيد ” الدافعية ” لديه للتعلم و الإبداع و البحث و التطوير و النجاح كذلك .
البناء النفسي و الصحة النفسية مهمة كأهمية صحة الجسد ، حتى تكون نفوسنا راضية مطمئنة ؛ ( يا أيتها ” النفس المطمئنة ” * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * و ادخلي جنتي ) { الفجر : 27- 30 } ، ( و نفس و ما سواها * فألهمها فجورها و تقواها * قد أفلح من زكاها * و قد خاب من دساها ) { الشمس : 7 ، 10 } .
ما أجمل أن تسمو أرواحنا نحو خالقنا ، و نعيش بفكر إيجابي نير ، فلا خوف و لا قلق ، بل أمن و أمان و راحة بال ، في مدارسنا ، في أسرنا ، مع أقاربنا و جيراننا ، في مجتمعاتنا – بإذن الله .
كثيرة هي الكلمات المضيئة تربويا و نفسيا و أسريا ، و لنا لقاءات أخرى معكم – بإذن الله .
نستودعكم الله ، و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .
____________________
المستشار : أنس أحمد المهواتي