الأحد 22 ديسمبر 2024 / 21-جمادى الآخرة-1446

كلمات.. تربوية ونفسية.. مضيئة



كلمات.. تربوية ونفسية.. مضيئة

المستشار :  أنس أحمد المهواتي

كثيرا ما استوقفني هذا الحديث النبوي الشريف : (( يا غلام إني أعلمك كلمات … )) ، أستلهم منه عبرا تربوية و نفسية ، و كلما أعدت قراءته و تفكرت فيه اكتشفت شيئا جديدا ، فأنهل من هذا المعين الصافي ، أعب منه عبا ، مع أنه مجرد كلمات !

عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال كنت خلف النبي – صلى الله عليه و سلم – يوما فقال : (( يا غلام ، إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، و إذا استعنت فاستعن بالله ، و اعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، و إن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الاقلام ، و جفت الصحف )) .

خطاب نبوي للأطفال و الشباب اليافعين خاصة ، عماد هذه الأمة ، و سر نهضتها ، و مستقبلها الزاهر المشرق ، إنه من المعلم و المربي الأول محمد – صلى الله عليه و سلم – لنقف عنده وقفة تربوية و نفسية ، و الوقفات الأخرى لها أهلها ، إنها كلمات معدودة ، لكن ليست ككل الكلمات ، إنها كلمات مضيئة ؛ لهذا نتساءل : كيف نعكسها إيجابيا على واقعنا التربوي و النفسي ؟

لندخل في صلب الموضوع ؛ لأنها كلمات .  إبن عباس – رضي الله عنهما – و هو حبر هذه الامة ؛ قد سمع ووعى هذه الكلمات و طبقها على حياته كلها .

  • كنت خلف النبي – صلى الله عليه و سلم – : أيا كان موقعه بالضبط ، المهم هو : التواضع و القرب من المتعلم ، كأنه صديق ودود ؛ لكسر الحواجز النفسية بين المعلم و المتعلم ، إنه نوع من التغيير و التجديد ، فالتعلم لا يكون فقط في تلك الغرفة الصفية المغلقة أو المسجد ، لنتخيل أنها رحلة علمية ثقافية في الهواء الطلق ، تثير التفكير الإيجابي ؛ لأن القدوة موجود ، و المكان مريح ، و الزمان مناسب .

 

  • الخطاب النبوي : (( يا غلام )) ، إنها مناداة رقيقة رقراقة ، محببة للطفل و الشاب الصغير ، تثير انتباهه ، تحفزه على الاستماع و التركيز ، لا يصب المعلم المعلومات صبا ، بل لا بد من تشويق و تلطف مفيد لاستحضار الذهن .

 

  • (( إني أعلمك كلمات )) : أعلمك : تعليم و ليس تلقينا ، دافع للعلم و البحث والتطوير ، و التفكير الإبداعي الإيجابي ، و ليس : احفظ عن ظهر قلب فقط .

 

  • (( كلمات )) : هنا حتى نؤمن و نطمئن المتعلم ، و نخفف من توتره و قلقه ، كأننا نقول له : لن نثقل عليك حتى لا تمل ، إنها بضع كلمات ، سهلة حملها ، لكنها تثير الدافعية للتعلم ،كأنها ” حوافز معنوية ” ، كل كلمة تدعوك لأن تفكر أنت ، تبحث أنت ، أنت المكتشف ، أنت المبتكر ، إنها رؤوس أقلام نقدمها لك ، لأننا نقدرك ، نحبك  نثق بك أيها الطفل و الشاب و الإنسان ، فأنت المستقبل كله ، هذا يجعله يبادلنا نفس الشعور و أفضل ، و ينمو لديه الذكاء العاطفي الانفعالي و الإجتماعي …إلخ ، يزيد من ثقته بنا و بنفسه ، و تقوى شخصيته ، و تصقل قدراته ، و توجه  ميوله  للخير .

 

  • (( كلمات )) : دعوة لإعادة النظر في مناهجنا ، وفي الكم ” كمية المعلومات ” التي تقدم للطالب ، أصبح كثير من الطلاب يشتكون من ثقل حقائبهم ، لذلك ندعو إلى التركيز على ” النوعية ” أصبح عدد من الطلاب – و ليس الكل – يحفظوا المعلومات لتقديمها أيام الامتحانات ، لكن سرعان ما ينسونها بعدها ، فلا بد من إعادة النظر في ذلك .
  • (( احفظ الله يحفظك )) : العلم من الله ، لذلك لا بد من أن نقوي صلتنا بالله ، إنه توجيه للعقول و الحواس كلها إليه – سبحانه لا شريك له – نحفظه ليحفظنا ، إنه علمنا ما لم نعلم ؛ ( إقرا باسم ربك الذي خلق *خلق الإنسان من علق * إقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم *علم الإنسان ما لم يعلم ) { العلق : 1-5 }

إنها علاقة تبادلية ، انسجام عاطفي ، توجيه إلى مهارات تفكير عليا ، ما قيمة المرء بدون التفكير ؟!

بقي الرسول – صلى الله عليه و سلم – ( 13 عاما ) في مكة المكرمة يركز على العقيدة ، و القرآن يخاطب عقولهم و يدعوهم للتفكير ؛ ( … لقوم يتفكرون ) { يونس : 24 } ، ( …لقوم يعقلون ) { البقرة : 164 } ، ( قل انظروا …) { يونس : 101 }  ، عجيب !  لماذا لم يتكلم عن الصلاة و الزكاة و الحج … و الأمور الأخرى في البداية ، إن دل هذا على شيء ، فإنه يدل على أهمية العقول و أهمية التفكير و أهمية العقيدة .

ما أجملها من طريقة : لا إكراه ، لا تهديد ، لا عقاب ، بل إقناع بالتي هي أحسن .

الرسول – صلى الله عليه و سلم – المبعوث رحمة للعالمين ،  المعلم و المربي الأول  ركز – كما قلنا – على العقيدة و التفكير الإيجابي الإبداعي ، بنى أساسا قويا ، فكان الأمر سهلا في تعديل أي سلوك خاطئ ، و أي أفكار سلبية ، و ليس الأمر بالإكراه أو التهديد ، أو العقاب أو العنف ، حتى في التربية و التعليم و غرس الأخلاق ، بل هي الحكمة و الموعظة الحسنة .

بعد أن رسخت العقيدة و استغل الناس عقولهم في التفكير الصحيح ، قال لهم : صلوا ، فصلوا ، و هكذا أبطل الخمر ووأد البنات … و غيرها ، كله بمجرد كلمات ، لماذا ؟! الجواب : لأن هناك عقولا تفكر بحرية ، و قلوبا بها عقيدة صحيحة .

و كذلك الاضطرابات السلوكية و الانفعالية – ( و هنا مربط الفرس ، و المغزى الحقيقي الذي نريد ) – لا يمكن التخلص منها بالأدوية فقط ، إلا إذا عدلنا الأفكار و المشاعر بشكل إيجابي بعلاج معرفي سلوكي ، ووجهناها نحو الخير و السلام ، لأن السلوك هو نتاج التفكير و المشاعر ، ( فكر سيء  يؤدي إلى سلوك سيء و أخلاق سيئة ) ، ( فكر جيد  يؤدي إلى  سلوك جيد و أخلاق جيدة ) ..

و كذلك : العلاقة بين الطلاب و المعلمين ، و الزوج مع زوجته ، و الأب و الأم مع الأولاد و البنات … و هكذا الناس فيما بينهم : إن كان عندهم ذلك الزاد ، و تلك المعاني و القيم السامية ، سنعيش في أمان و محبة و سلام ، ستقل المشاكل ، و سنمضي سويا نحو رقي و ازدهار مجتمعاتنا .

  • يشتكي عدد من الطلاب سواء في المدارس أو الجامعات و يقولون : عندما ندخل مرحلة جديدة أو نريد أن ندرس تخصصا جديدا ، نتشجع في البداية ثم بعدها نشعر بالملل ، و نتراجع و قد نتوقف ، لا دافعية ، لا نعرف كيف نبدأ ، لماذا يحدث هذا معنا ؟!

فلا بد للمختص أن يأخذ الأمر من جميع الجوانب ، و يخاطب عقل هذا الطالب و فكره و يسأله : لماذا تدرس ؟ ألم تكن هذه ميولك ؟ … ما رأيك أن تدرس لتحقق هدفا رائعا – فالعيش بلا هدف مضيعة للجهد و الوقت – ألا وهو مرضاة الله ، ثم إفادة الناس ( و ليس للنجاح الشخصي فقط ) ، لا تشغل  ” فكرك ” بأمور سلبية ، تنظم وقتك ، و تضع برنامجا ضمن خطة و استراتيجيات ، لتكون  – بإذن الله – طبيبا أو مهندسا أو صيدليا أو معلما … إن وجهنا ” طريقة التفكير ” بالشكل الصحيح ستزيد ” الدافعية ” لديه  للتعلم و الإبداع و البحث و التطوير و النجاح كذلك .

البناء النفسي و الصحة النفسية مهمة كأهمية صحة الجسد ، حتى تكون نفوسنا راضية مطمئنة ؛ ( يا أيتها ” النفس المطمئنة ” * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * و ادخلي جنتي ) { الفجر : 27- 30 } ، ( و نفس و ما سواها * فألهمها فجورها و تقواها * قد أفلح من زكاها * و قد خاب من دساها  ) { الشمس : 7 ، 10 } .

 

ما أجمل أن تسمو أرواحنا نحو خالقنا ، و نعيش بفكر إيجابي نير ، فلا خوف و لا قلق ، بل أمن و أمان و راحة بال ، في مدارسنا ،  في أسرنا ، مع أقاربنا و جيراننا ، في مجتمعاتنا – بإذن الله  .

كثيرة هي الكلمات المضيئة تربويا و نفسيا و أسريا ، و لنا لقاءات أخرى معكم – بإذن الله .

نستودعكم الله ، و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم