قيمة الذات وتحقيقها (تأملات نفسية /فلسفية في الذات والعشق الإلهي)
إن من نعم الله على العبد أن يهبه المقدرة على معرفة ذاته، والقدرة على وضعها في الموضع اللائق بها، إذ أن جهل الإنسان نفسه وعدم معرفته بقدراته يجعله يقيم ذاته تقيماً خاطئاً فإما أن يعطيها أكثر مما تستحق فيثقل كاهلها، وإما أن يزدري ذاته ويقلل من قيمتها فيسقط نفسه,
وقد وردت كلمة النفس الإنسانية وهي دلاله على الذات في القران الكريم (288) مرة وهذا يؤكد أهمية النفس ، وإن الله سبحانه وتعالى يحاسب المرء على ما أبداه من سلوك مصدره الذات الإنسانية او (النفس),ومن مظاهر حكمة الله تعالى المختارة والمُبيّنة في القرآن الكريم وحدة المسلك بين تزكية النفس وتطهيرها معنويّاً للوصول بها إلى أعلى مدارج الكمال وبين معرفة الله تعالى حق المعرفة وحبة سبحانة حبا يليق بجلاله ,فالإنسان قد خُلق مفطوراً على حبّ الكمال أي في أصل خلقته قد خُلق على كيفية مخصوصة هي حبّ الكمال المطلق وطلبه وهو من امور الفطرة ، والتبديل أو التحويل أو التغيير فيها يعني فقدان الأصل؛ لأنّ حبّ الكمال ليس أمراً عارضاً على وجود الإنسان، وإنّما هو كيفيّة مأخوذة في أصل تركيبته ونشأته، ويقول الله تعالى : فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ .
وما دام الإنسان مفطوراً على حبّ الكمال وطلب الحصول عليه، فإنّ هذا الحبّ وهذا الطلب لن يتبدّلا أو ينطفئا أبداً، إذاً لا تبديل لخلق الله تعالى. وهكذا جرت سنّة الله في الإنسان كباقي سُننه في الكون خالدة باقية أبداً.. فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً . فحبّ الكمال وطلب تحصيله هما سنّة الله سبحانه في خلقهِ، وهما من أصول الفطرة الأولى التي فطر عليها الإنسان، ولا ينتقض ذلك بما نشاهده من انحرافات جسيمة عن مستلزمات هذه الفطرة السليمة والصبغة الحسنة.
إنّ الإنسان إذا عرف الله تعالى فإنّه سوف يُحبّه بالضرورة، وذلك لأنّ حبّه لله تعالى انعكاس وترجمة فعلية لحبّ كماله الشخصي والذاتي، وهو طالب له ما دام فاقداً له حتّى إن كان مطلوبه يحصل عليه ضمن حدود ضيّقة في محلٍّ ما، فكيف إذا علم أنّ مطلوبه موجود بشكل مطلق غير محدود؟ فلا شكّ أنّه سوف يكون أشدّ طلباً له ورغبةً به,إذن الإنسان مفطور على حب الكمال. وهو لا يستطيع أن يكون كاملاً إلا إذا عرف لله جيداً. وعندما يعرف الله جيداً فإنه سيحب الله ويهيم به. وإجمالاً.
ويتميز الإنسان عن بقية الكائنات الحية برقى وتنوع حاجاته التي تؤثر في سلوكه بشكل أو بآخر, فلكل منا حاجاته الخاصة سواء كانت فسيولوجية أو اجتماعية أو نفسية ولعل ارقاها تحقيق الذات من خلال العلاقة الحميدة أولا مع الله ثم مع النفس والآخرين. والسلوك الانسانى مدفوع بالدوافع والحاجات المثيرة للنشاط الروحي و العقلي والفكري ، وهي أيضاً المسؤولة عما نلاحظه من استمرار في النشاط المؤدي لإشباع حاجاتنا ، فالدافع لا يقتصر على تحريك السلوك بل يمتد ليشمل الإشارة إلى مظاهر النشاط التي تؤدي إلى الاستمرار في النشاط والمثابرة عليه لإشباع حاجات معينة قد يكون مصدرها نفسية اوروحية أو عضوية بيولوجية أو فكرية أو اجتماعية, وتحقيق النفس أو الذات عند الإنسان لا يتم بسلوك غريزي فقط ومنها الجانب الايماني بل يتم بسلوك مرن ملائم للظروف بحيث إن هذه الحاجات يمكن تعديلها بصفة عامة ليتمكن من تنظيم حياته ويتكيف مع الظروف المحيطة به ويعتمد ذلك على نقاء الفرد والعوامل التي ترتبط بالشخصية وما يمتلكه الفرد من قدرات وإمكانات متفاعلة مع المؤثرات البيئية التي يتعرض لها ، فتحقيق الذات يشمل تكامل شخصية الفرد في ضوء هذه العوامل والمؤثرات كلها ولذلك يتباين تحقيق الذات بين الأفراد بقدر ما توجد فروق فردية بينهم في الإمكانات والقدرات ، وبقدر ما توجد فروق اجتماعية نتيجة التنشئة الاجتماعية الدينية والاخلاقية والاجتماعية والثقافية والظروف البيئية التي يتعرض لها ، وبقدر ما يختلفون في طريقة الاستجابة للمؤثرات البيئية .
ويعرف الإمام الغزالي العشق الإلهي قائلًا: (فاعلم أن مَن عَرَف الله أحبَّه لا محالة، ومَن تأكدت معرفته تأكدت محبته بقدر تأكد معرفته، والمحبة إذا تأكدت سُميت عشقًا، فلا معنى للعشق إلا محبة مؤكدة مفرطة، ولذلك قالت العرب: “إن محمدًا قد عَشِق ربه” لـمَّا رأوه يتخلى للعبادة في جبل حراء).
وهو “مراتب” و”مقامات”: و حالة من أحوال الحب الإلهي، تنتقل زيادة أو نقصانًا في مراتب (مقامات) متدرجة، وهي مراتب شبيهة بأحوال العشق البشري مع الفارق في القداسة بطبيعة الحال، هذه المراتب يمكن أن تنحصر في الأحوال :-
العلاقة: وهي الحب اللازم للقلب وسميت علاقة لتعلق القلب بالمحبوب.
الشغف: حرقة الحب للقلب مع لذة تداخلها، شغفه حبه: أي إحرق قلبه مع لذة يجدها.
اللوعة: حرقة الهوى.- الصبابة: رقة الشوق وحرارته.
الشوق: السفر إلى المحبوب والاشتياق: نزع النفس بكليتها إلى المحبوب.
التبل: وهو أن يسقمه الهوى ومنه رجل متبول.
الوصب: ألم الحب ومرضه.
الهيام: وهو أن يذهب على وجهه لغلبة الهوى عليه.
الوله: وهو ذهاب العقل من الهوى.
التتيم: وهو أن يستعبده الحب.
وقد نشأ مصطلح الحب الإلهي في القرن الثاني الهجري وكانت الحياة قبل ذلك يحركها عامل الخوف من الله ومن عقابه، أبرز ممثلي هذا الاتجاه الحسن البصري وكانت حياة الزهاد والعباد الأوائل تمتلئ بهذا المعنى، فقد عرف عنه أنه كان يبكي من خوف الله حتى قيل كأن النار لم تخلق إلا له
وهناك مراتب للذات ترتقى أو تدنى من خلالها وذلك خلال العقل والارادة وهي ما يطلق عليه الذات المريدة المنفذة فيقول الله تبارك وتعالى عن النفس المطمئنة: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ{27} ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً{28} فَادْخُلِي فِي عِبَادِي{29} وَادْخُلِي جَنَّتِي{30} سورة الفجر
هذه النفس التي تكلم الله عنها هي النفس المطمئنة التي واصلت طريقها نحو الخير وأعمال البر والإحسان وارتقت لرتبة الكمال والطهارة ، وبدأت في مرحلة الانتقال إلى الكمال الروحي .. والنفس المطمئنة لها مراتب ، والراضية والمرضية هي آخر درجات تكاملها ,وسميت بالمطمئنة لأنها وصلت لمرحلة السكون والاطمئنان إلى إرادة الله .. ولن يصل العبد إلى هذه الرتبة إلا إذا أطاع عقله وعمل بما تمليه فطرته وابتعد عن شيطانه .
فالنفس المطمئنة هي مرحلة عبرت مرحلة النفس اللوامة إلى مرحلة الإلهام بعد أن ألهمها الله تعالى طريق الرشاد ، وقد أقسم الله تعالى في كتابه العزيز بهذه النفس في قوله : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا{7} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا{8}سورة الشمس .. أي بين لها طريق الخير وطريق الشر وميز بينهما .
تتميز هذه النفس بالاطمئنان وبالسكينة والتواضع والإيثار والرضا والصبر على الابتلاء والتوكل وإسقاط التدبير مع الله، فلا خوف ولا اضطراب ولا قلق ولا ضياع ولا ضجر، دائما رضا في الله وأمل في الله . كما أنها تسير بمقتضى الإيمان ، إلى التوحيد ، والإحسان ، والبر، والتقوى ، والصبر، والتوكل ، والتوبة ، والإنابة ، والإقبال على الله وقصر الأمل واستعداداً للموت وما بعد الموت .. فهي مطمئنة ولا تخاف على نفسها إلا من الله .
ومن مميزاتها أنها لا تحزن على ذهاب مال ، ولا تجزع لموت قريب أو بعيد ، ولا تخاف مما سيأتي في المستقبل ، ولا تبكي على ما فات وضاع في الماضي ، فهي طيبة القلب ، مطمئنة الروح ، مؤمنة بقضاء الله وقدره .. يقول الله تعالى في ذلك : {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }الأحقاف13
إن المداومة والحرص الدائم على ذكر الله سبحانه وتعالى هو الطريق إلى الاطمئنان ، ويكون الذكر بالصلاة والدعاء والمناجاة والاستغفار والإكثار من الصلاة على النبي وترطيب اللسان بأسماء الله الحسنى .. فالقلوب تلين لذكر الله ، وتستقر وتطمئن ، قال تعالى : {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ }الرعد28 . ويقول في ذلك عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
” لو أعلم أن الله تقبل منى سجدة واحدة، فلا شيء أحب لي من الموت “
وإذا وصلت النفس إلى هذا المقام.. أي مقام النفس المطمئنة، وجاهدت فإنها ترقى إلى مقام النفس الراضية، ثم المرضية، ثم الكاملة وهى مراتب ومنازل نفوس الأنبياء والأولياء الصالحين أصحاب الدرجات العليا . وفي مراتب التدنى تبدو النفس الامارة بالسوء وذلك كما في قوله تعالى ( ومَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ( (سورة يوسف الآية 53)) .
قال ابن قيم الجوزية في مدارج السالكين: من عرف حقيقة نفسه وما طبعت عليه علم أنها منبع كل شر ومأوى كل سوء وأن كل خير فيها فبفضل من الله منَّ به عليها.. والنفس الأمارة تجعل صاحبها يقر بالذنب فيحدث نفسه ويستشعر بأن النعمة والإحسان والفضل بيد خالق النفس. والنفس الأمارة تحيل صاحبها إلى الإقرار بأن نفسه الأمارة هذه هي مصدر الذنب والإساءة. النفس بطبيعتها تدعو إلى مشتهياتها من السيئات على كثرتها ووفورها فمن الجهل أن تبرأ من الميل إلى السوء وإنما كف عن أمرها بالسوء ودعوتها إلى الشر برحمة من الله سبحانه تصرفها عن السوء وتوفقها لصالح العمل وينقسم الناس ذوي النفوس الأمارة إلى قسمين :
قسم يعمل السوء بجهالة وبدون علم بما فيه خير أو فساد ، وقد قال الله تعالى عنهم : {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً }النساء17 .. فهذه الفئة من الناس يتوب الله عليهم إذا تابعوا وعملوا صالحاً ولم يعودوا إلى ما فعلوه .
والقسم الآخر هم الذين يعملون السيئات ويدركون أنها مخالفة لفطرتهم التي فطرها الله ، فهذه الفئة يعاقبها الله بضعفين من العذاب إن ماتوا على ذلك ؛ لأنهم يعلمون الحق ولا يعملون به ، وقد بين الله ذلك في قوله : {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }النساء18 .. فهم يكفرون بالله ويعلمون أنه الحق ، لذلك كان عقابهم أليماً .
والنفس تدرك أنها لا ريب راجعة إلى ربها الذى برأها ويعلم مالها وما كسبت عبر مسيرتها: {ثم توفى كل نفس ما كسبت}[آل عمران: 161] وقوله تعالى: {وهم لا يظلمون}[البقرة: 281].
والمراد بالنفس اللوامة: النفس التقية المتصفة بالاستقامة التي تلوم صاحبها وتلوم ذاتها. يروى عن الحسن البصري في هذه الآية قوله: إن المؤمن والله ما نراه إلا يلوم نفس يقول: : ما أردت بكلمتي؟ ما أردت بأكلتي؟ وأن الفاجر يمضي قدماً ما يعاتب نفسه. قال تعالى: {بل الإنسان على نفسه بصيرة}[القيامة: 14] وقد فسرها المفسرون بأنها الحجة الشاهدة على صاحبها. وهي تتولى الإدلاء على ما كان منه من الأعمال السيئة وقد سميت النفس اللوامة لأنها تلوم صاحبها عند تقصيره في عبادة مولاه أو تتلوم بين الطاعة والمعصية. وهي النفس المؤمنة التي تزين للإنسان المعاصي ثم تلومه على ذلك ، وأصحاب هذه النفوس أكثر عرضة للصراع النفسي من غيرهم كونهم بين خيارين متضادين ..
وفي القرآن الكريم ذكر الله سبحانه وتعالى النفس اللوامة في قوله : {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } القيامة2 .. أي بالنفس التي تلوم نفسها وإن اجتهدت في الإحسان .. هذه النفس خير من النفس الأمارة بالسوء ، ولكنها تبقى متذبذبة من غير استقرار إلى أن تتقي الله وتثبت على طاعته لتبدأ بالتحول إلى نفس مطمئنة وهي تحتاج إلى توجيه دقيق كي تتمكن من الثبات على الطريق المستقيم ، فإن لم توجه ستقترب من النفس الأمارة ، لذلك يقال عنها أنها صنيعة الران ووليدته الذي يطبع على قلب الإنسان من كثر المعاصي .. هذه النفس لو اعتني بها ووجهت وصقلت وأعينت على الخير لطمئنت وارتقت لتصبح نفساً مطمئنة لا تأبه لما يصيبها من شدائد .
النفس اللوامة هي مصدر الصراع النفسي الذي يعرف بذلك الصراع الناتج بين فكرين متضادين في النفس الواحدة ، بحيث يميل الفكر الأول للخير والفكر الآخر للشر ، ما ينتج عنه شحنات فكرية متضادة تسبب الضعف النفسي لصاحبها نتيجة الصراع الداخلي المستمر .. ويضل هذا الصراع مستمراً إلى أن تثبت النفس على الطريق المستقيم . هناك ملاحظة نلفت إليها انتباهك، وهي أن النفس الأمارة واللوامة والمطمئنة ليست موجودة بثلاث وجودات، وإنما هي نفس واحدة، ولكنها تختلف باختلاف الحالات. فنفس كلّ إنسان على أقسام كل قسم له عدة مراتب أيضاً. الذات بأقسامها الثلاثة: وهي وعي الفرد بشخصيته وهويته واستمرار يته وصورته ومكانته في المجتمع.
وقد استعملت الفلسفة مصطلح الذات بمعانٍ مختلفة فهي مرادفة للعقل او النفس او بمعنى الروح ( Soul ) واحيانا مرادفة للانا Ego ,شغل موضوع الذات الإنسان منذ القدم حيث وجدت بداياته في الفلسفة ولدى الفلاسفة والمفكرين القدماء أمثال أفلاطون وأرسطو , وأشار أفلاطون إلى ان الهيكل الرئيسي للفرد يتكون من ثلاثة نفوس ( العاقلة – الغضبية – الشهوية ) ويعتقد ان النفس تسبق الجسد بالوجود وتبقى خالدة من بعده وإنها تختلف عنه بطبيعتها الروحية , اما أرسطو فقد عد الجسد من دون النفس جثة هامدة حيث تمثل النفس الوظيفة الحيوية للجسم وكذلك النفس من دون الجسم لا معنى لوجودها .
وقد وجد علماء النفس في النصف الأول من القرن العشرين الماضي أنه لا يمكن الكتابة في علم النفس دون الاهتمام بالذات وكثرت الدراسات والبحوث وظهر ما يسمى ( سيكولوجية الذات Self – psychology ) .
ومن ثم ظهر مفهوم الذات الذى يتضمن حب الذات وهو تعبير عن الفهم الحقيقي لها والرضى والقبول لكل شيء فيها، في حين كراهية الذات(self-dislike) تعبر عن الشك وهدفها تقليل الخير الذي في داخلها وعظمة ما هو طبيعي فيها. وحب الذات هو الاعتراف بانجازاتك في كل شيء، حتى تلك الصغيرة منها، كراهية الذات شعورك بالذنب على كل خطأ قمت بها منذ اليوم الذي كنت قد ولدت، إضاعة لقيمتك الحقيقية , حب الذات هو الخفة، والإضاءة، البهجة، كراهية الذات اللامبالاة وانعدام الأمن والحزن. حب الذات يكشف عن عظمتك، كراهية الذات تخنق النمو لديك.
إن عدم حب الذات هو واحد من أكبر العوائق التي تواجهك لتحقيق السعادة, عدم حب الذات عائق أمامنا يمنعنا من بناء علاقات عاطفية مثالية سليمة مع الله ومع الآخرين, عدم حب الذات هو مصدر للسلوك ألإدماني وتدمير الذات والذي لا يخدمنا أطلاقا. لا يمكن لعدم حب الذات أن يحقق لنا الوفرة، والصحة، في جميع علاقاتنا الأخرى مع الآخرين, إزالة الحواجز عن محبة الذات يؤهلك جسديا وروحيا لتحولات في الطاقة النفسية أكبر.
الأشخاص الذين يكرهون ذواتهم هم أشخاص يشعرون بأنهم ليسوا جيدين لذا فهم يفشلون في أداء امتحاناتهم، يفشلون في علاقة الحب التي يقيمونها مع الشريك، يفشلون في الحصول على وظيفة تتناسب مع قدراتهم، أنهم يفشلون في كل شيء, في حين ينظرون إلى الآخرين بأنهم أذكياء، جذابون، أنهم على ما يرام بما فيه الكفاية. تبقى هذه الأسئلة المؤرقة والمقارنات بالآخرين تتفاعل داخل ذات الفرد ومن ثم تظهر وفق أنماط , ولأنّ الحب رضا كان لابدّ لمن يحب أن يتحرى رضا حبيبه، ويملأ حبُّه قلبَه فيصبح ما يحبه حبيبه آثر عنده وأسبق على ما تحبه نفسه, فإن توافقا كان ذلك غاية السعادة والهناءة، وإن تعارضا آثر محبوب حبيبه على ما تحبه نفسه.
لذلك كان من قول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عندما سأله قدر حبّه له فقال أنّه أحبّ إليه من كل شيء إلاّ من نفسه، فقال: “لا يا عمر حتّى أكون أحبّ إليك من نفسك“، فنظر عمر ثمّ قال: الآن أنت أحبّ إلي من نفسي، فقال عليه الصلاة والسلام: “الآن يا عمر”.
ونجد في القرآن الكريم، مقابل من ذكر حبّهم لذواتهم واغترارهم بالدنيا، من هم على نقيض هؤلاء من الأنبياء عليهم السلام وهو الذين تعلّقت قلوبهم بربّهم فحصلت لهم “المعية“، كما يتبين من قول سيّدنا موسى عليه السلام لقومه: “إنّ معي ربّي سيهدين“، وقول سيّدنا محمد صلوات الله عليه وسلامه لصاحبه في الغار: “لا تحزن إنّ الله معنا”,وإنّها المعية التي يشعر بها كل من ملأ حبّ الله قلبه؛ فكان الضابط لكلّ أحواله من حب وبغض، وأخذ ومنع، وحكم وشهادة, فمن آثر حبّ الله تعالى وطاعته على حبّه لنفسه تجده يعطي ويؤثر غيره بالخير، فتكون محبوباته موافقة لمحبوبات الله تعالى وتكون مبغوضاته هي ما أبغضه الله تعالى ونهى عنه,ومن أحبّ الله تعالى لم يرافق ولم يصاحب إلاّ من كانت محبته له موافقة لمحاب الله تعالى ولا يأنس إلا بمثله، فيكون خير معين له على طاعة الله تعالى. ولا يختار لنفسه صديقا أو زوجا أو شريكا أو تجارة يكون محبّا لنفسه مؤثرَها على حب الله، فيشركه في شركه.
وقد طلب سيدنا موسى عليه السلام العون من الله في أخيه هارون فقال: “كي نسبّحك كثيرا ونذكرك كثيرا“، وطلب سيّدنا زكريا عليه السلام الولد فقال: “يرثني ويرث من آل يعقوب“؛ يرث الكتاب والنبوّة حبّا لله ولدينه.
إنّ الإنسان إذا أحبّ نفسه أحبّ لها الغنى والربح والنفع، ومن قول الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله: “أخسر الناس صفقة من اشتغل عن الله بنفسه”, ولابدّ لمن أحبّ المال والدنيا أن ينشغل عن الله بما يظن أنّه مستغن به عنه. مستغنٍ بالمال والولد، والله هو الذي رزقه إياه. ومستغنٍ بنفسه، والله هو الذي وهبه إياها,فليسائل كلّ منّا نفسه إن كان مستغنٍ بها عن ربّه أم أنّه مستغن بالله عمّن سواه… لينظرْ إن كان ممّن يتبع نفسه هواها أم أنّه ممّن جعل هواه تبعا لما جاء به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم…
لابدّ أن نعيد صياغة نفوسنا ونراجعها بين الفينة والفينة لنرى إن كان حبّنا لربنا آثر عندنا من حبّنا لأنفسنا، أم أننّا نتردد عندما تُعرض علينا أمور الحياة ونعتقد الغَناء بما حبانا به من مال أو جمال أو علم أو ذكاء …لننظر في مدى استغنائنا بربّنا. وقد يبدو الأمر غير قابل للجدل، والإسلام ديننا والإيمان بالله تعالى ربّا يسكن قلوبنا بلا مراء! لكن مجرد المجادلة فيما قضاه الله تعالى وفرضه ومجرد عرضه على العقل للنظر فيه – وليس العقل هو الناظر فيه بل هوانا! يهوي بنا في بحور الهوى؛ هوى النفس التي تجادل وتعارض، وليس ثمة من حبّ الله وطاعة له إلاّ بمعارضة الهوى.
والخطر ليس في المجادلة في أوامر ربّنا ونواهيه، ولكنّه اليوم في واقع المسلمين الذين ندّعي تمثيلهم ونحن قد أمسينا ممثلين بارعين لعقلية لا تمت إلى العقلية الإسلامية بصلة: إنّها العقلية الغربية التي تبنيناها وأصبحت قوانينها وركائزها لصيقة بكثير من سلوكاتنا بل ومعتقداتنا,.إنمّا الفردية الغربية والانتصار للذات وإيثارها على كلّ شيء وبكل شيء ترغب فيه, إنّها الأنانية المفرطة التي ينبني عليها دستور الأمم المتقدمة وقد اتخذنا منه دستورنا أيضا في المسير للالتحاق بركب التقدم والتحضر, لكن كيف حدث ذلك، ودستورنا يدعو إلى عبادة الله وحده ومخالفة الهوى، ودستورهم يدعو إلى عبادة الذات واتباع الهوى؟
كيف، ودستورنا يدعو إلى حب الله تعالى والإحسان إلى خلقه، ودستورهم يدعو إلى حب النفس وتعظيم الحريات الفردية وتقديم المصلحة الشخصية على الصالح العام؟ كيف، ودستورنا يدعو إلى الإيثار والإنفاق والبذل، ودستورهم يدعو إلى الأثرة وإلى الاستهلاك المفرط من كل شيء وإمتاع النفس بلا حدود ولا رادع؟ كيف، ودستورنا يدعو إلى تزكية النفس والتسامي بالروح وتوثيق الصلة بالله بالعبادة والطاعة وحسن التوكل، ودستورهم يدعو إلى السعي وراء شهوات البدن والخضوع لقانون المادة الذي لا يعترف بإله؟ فأي من الدستورين هو دستورك؛ أهو دستور الله أم دستور نفسك وهواها؟ إنها بلا شك أفكار ومشاعر تنعكس على شخصيتك وتلقي بظلالها على علاقاتها مع الله ومع الآخرين.