تحدث مؤلف كتاب ((أب غني وأب فقير)) روبرت تي كيوساكي وغيره من خبراء المال والأعمال عن البرمجة المسبقة في الطفولة من قبل الأهالي لأطفالهم وكيف تلعب دورا محوريا في مستقبلهم والوضع الاقتصادي الذي سيكونون عليه ، فالأب الفقير يوحي لأطفاله بطريقة مباشرة وغير مباشرة طريقة العيش البسيطة وأسلوب ممارستها وكيف تصبح مثل بابا تماما وبالعكس منه الأب الغني ، لذلك يكبر الأطفال من مختلف العوائل ويزداد الفقراء فقرا والأغنياء مالا ورفاهية ولو كان الابن قليل الفهم واستيعابه بطيء ذلك انه يقوم بطريقة لاشعورية بتطبيق ما شاهده من ابيه ويحصد النجاح تلو الآخر وهكذا دواليك. وهنا يتبين بوضوح دور البرمجة المسبقة وبالذات في سنين الطفولة المبكرة وتأثيرها على باقي حياة الفرد.
بالطبع هناك استثناء لكل ذلك ولكن سنؤجل الحديث عنه ريثما نتطرق لموضوعنا الرئيس وهو ما اسماه العالم النفسي سيجموند فرويد بعصاب التكرار القهري او عصاب القدر والذي يجد فيه الفرد نفسه مجبرا على تكرار القيام بأحداث سابقة في حياته دون وعي منه استجابة لمبدأ اللذة وما يحققه من رضى داخلي أو رغبة في إيجاد نتيجة ومخرج مختلف للصدمة ولكن دون جدوى!
لماذا الحديث عن هذا العصاب تحديدا ؟
من خلال عملي كمستشار نفسي واجتماعي لاحظت تكرار هذا العصاب على مستوى الأفراد عموما وعند الأزواج خصوصا ، وذلك أن الزوجين مثلا قد مرا بتجارب معينة في الطفولة من ممارسات أبوية سادية ضد الأم والأطفال أو قتال محتدم بين الوالدين حول تربية الأبناء وتدبير المنزل أو فضيحة خيانة وغيرها من الأمور الغير سارة ، وتكرارها أمام الأطفال يؤدي لنتيجة مفادها تسرب السلوك إلى اللاشعور ليصبح قيمة ومعتقد يعتمدون عليها مستقبلا في تجارب مشابهة.
يبدأ الزوجان حياتهما الجديدة بكل حب وتفان وعلاقة متينة مبنية على وعود وأحلام وردية ، وعندما يزول وهج المشاعر قليلا بعد تمضية وقت كاف أثناء العلاقة الزوجية تنفجر فجأة قنبلة مدوية تحول حياتهما إلى خراب وتعود تجربة بابا وماما من اللاشعور وما يصاحبها من سلوكيات وحشية للتصدي والدفاع عن النفس وعندها يكتب كلاهما قصة النهاية لبداية لم تكتمل.
وقد يكون أحد الزوجين مصاب بذلك ولا يشترط كلاهما ، وللتوضيح سأذكر مثالا على ذلك:
أحمد زوج مثالي يحب زوجته وأبناءه ويحرص دائما على توفير كل تريده العائلة من حاجيات أساسية وكماليات لتحقيق أعلى مستوى من الرفاهية ، زوجته حنان الجميلة الساحرة المتذمرة دوما من سوء الأحوال المادية ومن قلة مكوث زوجها في البيت معهم وتقصيره في العلاقة الحميمة … الخ ، سلوكها الظاهر التصيد لأحمد واختلاق المشاكل لتبدأ سلسلة تبادل الاتهامات والشكوى مع تكرار طريقة معينة في الصراخ واستخدام بعض المصطلحات والإشارة باليدين والدعاء على الظالمين أمثال أحمد طبعا .
بعد التواصل مع الزوجة واخضاعها للتحليل النفسي لمعرفة أسباب هذه السلوكيات المتكررة اللاواعية تبين ان لديها صدمات من الماضي مشابهة للذي ذكرناه بالأعلى عن علاقة والدية معقدة وانها تقوم باستنساخ تجربة والدتها وطريقة ردها وكل شيء ظنا منها ان هذه هي العلاقة الزوجية الطبيعية ، بالفعل فعقل حنان تبرمج على أن العلاقة المعقدة والمقلقة هي نمط كل الأسر وهكذا يجب أن تكون ، لذلك عندما يحسن اليها زوجها ويوفر لها كل ما تحتاجه يبدأ عقلها بالتشوش (هل اشكره واحسن اليه؟) وهذا بالطبع خارج منظومتها ومخالف لما اعتادت عليه (أم استمر في التقليل منه ودوام الشكوى كما كانت تفعل أمي؟) ومن طبيعة الانسان ان لديه مقاومة للتغيير وما تعود عليه من سلوكيات لأنها وان كانت سيئة الا انها تشعره بالراحة والطمأنينة.
وكذلك على مستوى الأفراد ينخرط الكثير من الناس في سلوكيات قهرية بشكل متكرر ظنا منهم أن هذه مشيئة الله ويجب الانصياع لها بالرضى والتسليم ومزيد من الصبر ، كأن يتعرض للحوادث المرورية أو تتعطل السيارة باستمرار ، أو تكرار بعض الامراض والاوجاع في أماكن متفرقة من الجسد وغيرها ، وما علم أن مصدر كل ذلك هو اللاشعور الذي يجبره على القيام بتلك السلوكيات التي تحبسه بداخل دوامه من النتائج التي تؤدي لنفس المشاعر المرغوبة والتي يسعى لها باستمرار.
قد يدمن الانسان مشاعر الألم والقهر منذ طفولته المبكرة وتستمر معه حتى تتحول الى عصاب مازوخي مدمر للذات ، فهذه الرغبات الداخلية هي من تترجم في الواقع على شكل سلوكيات قهرية تدفع به لتشويه السيارة الجديدة التي اشتراها للتو ويرجع ذلك كذلك لمشاعر عدم الاستحقاق التابعة لمنظومة تدمير الذات ، وتتجدد الامراض والاوجاع وتفتك بجسده الذي اثبت المختبر خلوه من كل عيب ، مجرد اضطرابات سايكوسوماتية (نفسجسدية) ، وتستمر المعاناة حتى تصل الى طريق مسدود.
الخلاصة المرجوة من كتابة هذا المقال هي التالي: الطريق الى النجاح يبدأ بالتخلص من التلقائية (بقايا من طفولة ونماذج أولية في العقل) الى القصد في الفعل (الوعي) والتخطيط للقادم انطلاقا من شخصية مستقلة متصالحة مع ذاتها ، فهذا النوع من الشخصيات هو من يبني المجتمع ويساهم في تلاحم لبناته حتى يصبح كالبنيان المرصوص
____________
بقلم/ أ. محمد عبدالرحمن صالح الغوينم