الثلاثاء 26 نوفمبر 2024 / 24-جمادى الأولى-1446

في نفسِ الأسير .



في نفسِ الأسير .
د. فيصل بن سعود الحليبي.
لم تكن ضحكات طفولته تنبؤ بشيء ، ولم تكن أمه تنسج من نظراتها ألمًا ما ، غير أن تلك الضحكات كانت نادرة وكأنما تُسجن في فمه من بين فكيه، وهذه النظرات كانت طويلة وكأنما تريد أن تلتهمه صورة ومعنى!!
يقلقه أحيانا شغف أمه به، فتزيد هي من حرصها عليه، تحاول أن لا تبالي بطموحه المخيف، كانت تتوجس من تعليقاته على ما يجري من تعسف وظلم قاسيين على أهله وإخوانه في أرض الإسراء، تخفف من لوعة الألم بلسانها، وإن كان يفري كبدها، ويحرق قلبها.
كانت الأحداث تتسارع في صنع مستقبله ، كما كانت قادرة على حسم موقفه، والأخذ بيديه نحو القضبان ، بل خلف القضبان !!
وتبدأ هنا حياة أخرى، فالبصر محدود بين جدران كئيبة، والسمع يملؤه الصمت ، سوى رطنات لا تمت إلى لغته بصلة، وربما قطع صمته ذلك الرنين الذي ينبعث صداه من سلاسل قدميه أو قدمي فريسة جديدة !!
وأما الوقت فيمر بطيئًا وئيدًا ، وكأنما حملت عقاربه أطنانًا من الأحزان والأكدار .. كل دقيقة تمر يرجو أن تكون أختها أرجى منها أملاً أو فرجًا ..
وتركض في ميدان خاطره المكلوم خيول من التساؤلات .. والآلام .. والآمال .. وصور من شخصيات محبيه ترسم على وجهه الابتسامة المصحوبة بدمعات الشوق .. أو الحنان .. أو مزيجًا منهما .. وربما فارقت الابتسامة محياه المشرق فجأة لتدعه متجهم الوجه، تشتعل في عينيه نار الحرية التي ينشدها، ذلك حينما تتسلط عليه وجوه سجانيه أو أربابهم ..
ماذا يريدون مني؟ ماذا عساهم يصنعون بي؟ لقد كنت أسمع كثيرًا من أساليب الإهانة والإذلال التي يمارسونها طغيانًا على من قبلي أو من يصحبوني هنا !!
أترى هل سأنال منها ما نالوه .. لا يهم .. المهم أن أبقى على مبدئي .. ؟ هل سأطيق تعسفهم وبطشهم ..؟ لم لا .. وقد احتمله غيري .. !! أظن أنني أسرفت على نفسي كثيرًا بمثل هذه التساؤلات السخيفة .. التي لا يجدي الجواب فيها شيئًا .. لأني لا أستطيع تغيير حالي .. ولا تقدير عذابي ..
ثم ماذا عن حال أهلي .. من المؤكد أنهم يبكون عليّ حرقة وألمًا .. وأن أولادي نُغصت حياتهم بأسْرِي .. كلا بل هم الآن يعتزون بي منافحًا عن قدسي وأرضي وديني .. وحق لهم الفخر ..
ثم ما هذه الغفوات التي أراها بين فترة وأخرى تُعمي سجّاني .. يبدو أنه في غاية التعب .. والملل أيضًا .. لقد قدمتُ وهو هنا في هذا السجن .. وربما خرجت وهو باقٍ فيه .. ما أطول سجنك يا سجان .. وما أتعس ليلك .. !!
ماذا سأقول لهم في الصباح .. آهٍ أيها الصباح .. هل سيسمعون مني كلامًا جديدًا ؟ أم هو الصمود الذي لا يزيد مع الزمان إلا صلابة ونشاطا !!
هل أستطيع أن أقول كلامًا يخرجني من ظلمة هذا الأسر .. ربما الكذب .. وليس من ثوبي .. وربما الصدق حينما أكون جبانًا لا أمد يد عونٍ ولا لسان دفاع عن كرامة الأقصى ولا أهله ..

ألست أسيرًا من المسلمين .. ألست لبنة من لبنات الجسد الواحد الذي قال فيه النبي الكريم ‘ : (تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ) رواه البخاري . 

هل أصدق بأني وحيدًا في تفكيري .. ولا يشاركني الآن أحد من المسلمين همي سوى ذويّ المكلومين بجرحي .. !! 

آهٍ .. آه .. الآن عرفت ماذا تعني كلمة ( مفاوضات ) أو ( مبادرات ) أو ( مؤتمرات ) !! 

هل يمكن أن يصل حال أبناء الأمة اليوم أنهم لا يفكرون في أسراهم فضلاً أن يعملوا شيئًا من أجلهم .. بل من أجل قضيتهم الكبرى .. 

ما أقسى اللهو .. كيف أخذ بلباب العقول حتى أفسد عليها مشاعرها.. فغدت مريضة بحب الدنيا والأنانية فيها .. 

هل المتخاذلون عن الدفاع عن فلسطين على حق .. وأنا وأمثالي على خطأ .. إذ لو كنت على حق ما تركني إخواني في كل هذا العالم رهين القضبان والسلاسل والسجّان النعسان !! 

قفي أيتها الخواطر الشاردة .. واتركيني قامة تعتز بدينها ، وتسمو بانتصارها، وترى في الأسر خطوات إلى الفجر .. ما هما طالت فإنها ستصل ، لتعود تلك الضحكات سعيدة بالنصر، وتعود تلك النظرات موقنة بالوعد . 

قال الحبيب صلى الله عليه وسلم : ( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ إِلَّا الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ ) رواه مسلم . 

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم