الأحد 10 نوفمبر 2024 / 08-جمادى الأولى-1446

في تربية الذات : خلدون وتحدي الاعاقة.



في تربية الذات : خلدون وتحدي الاعاقة.

                                          http://photos-f.ak.fbcdn.net/hphotos-ak-snc7/376531_221509601254598_195818713823687_555538_1341686664_s.jpg     د. نهى عدنان قاطرجي .

إذا كان الانسان يفرح عندما يقرأ قصص الناجحين، ويسر عند اطلاعه على سير المتفوقين، فإن هذا الفرح يصبح مزدوجا عندما يكون اصحاب هذه القصص ممن يعرفون بذوي ” الاحتياجات الخاصة”، الذين تمكنوا رغم اعاقتهم من تخطي الصعاب، والقيام ببطولات تحّدوا بها أقرانهم الأصحاء .

إن هذه القصص التي نقرأها من هنا وهناك ليست مقتصرة على عصرنا، بل ان التاريخ يروي سير كثير عن هؤلاء الأبطال، ومن بينهم الصحابي عمرو بن الجموح الذي كان مصاباً بعرج في رجله فأتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يشكو اليه اولاده الذين منعوه من الجهاد بسبب إعاقته ، فقال له :” يا رسول الله ان بني هؤلاء يمنعونني ان اجاهد معك والله اني لأرجو ان استشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنة “، فأذن له الرسول عليه الصلاة والسلام بالجهاد ، فقتل شهيدا في غزو احد.

ومن بينهم ايضا الكاتبة الأميركية هيلين كيلر التي ولدت في العام 1880م. صماء عمياء ، ورغم ذلك لم تمنعها اعاقتها من متابعة تحصيلها العلمي حتى حصلت على درجة الدكتوراه، وأصبحت كاتبة مشهورة ، كما كرست حياتها لخدمة المعوَّقين في بلادها.

إن مما دفعني إلى الحديث عن هذا الموضوع اليوم، قصة الشاب ” خلدون سنجاب” التي حرصت قناة الجزيرة الفضائية على متابعتها منذ سنتين وحتى اليوم. والتي لا يستطيع المرء أمام عظمة هذا الشاب وتحديه لنفسه وللصعاب التي واجهته، إلا ان يقف مفكرا فيها، ليس فقط اعجابا وتقديرا لهذا الانسان العظيم، ولكن ايضا تدبرا وتأملا في قدرات الإنسان اللامحدودة بإذن الله .

قصة هذا الشاب بدأت منذ أواخر صيف 1994م. بعد أن قفز في مياه البحر فارتطم رأسه بالحجارة، وكسرت رقبته، واصيب بشلل رباعي افقده الحركة وألقاه طريح الفراش . إلا ان ما حدث له لم يوهنه ولم يضعفه، بل على العكس من ذلك، شكّل هذا الحادث مفصلا مهما في حياته، وحوَّله من انسان عادي إلى انسان مميز، إذ أثبت لنفسه وللعالم أن الإعاقة لا يمكن ان تقف في وجه العزيمة والاصرار.

لقد تمكن هذا الشاب بفضل إرادته الصلبة أن يتزوج ويستقل عن اهله، ويتخصص ببرمجة الحاسوب التي مكنته من الحصول على وظيفة في إحدى الشركات الترفيهية والتعليمية الكبرى … كل هذا بانتظار ان يحقق حلمه بتأسيس شركته الخاصة .

إن قصة هذا الشاب الطموح الذي تحدى عجزه وضعفه، يمكن ان نستخلص منها كثير من العبر، ومن بينها :

1- دور المعوَّق نفسه في الخروج من محنته، وهذا يتطلب بالدرجة الأولى ايماناً بالله سبحانه وتعالى وبقضائه وقدره، وقد عبر الشاب خلدون عن هذا الايمان بقوله :” أما وقد شاء ربي أن يبتليني فهذه حال الحياة الدنيا، أرادها الله دار ابتلاء، أما دار البقاء فهي الحياة الآخرة “. كما يتطلب بالدرجة الثانية إرادة وتصميماً على النجاح والتفوق . وقد وجه الشاب خلدون نصيحة إلى من ابتلي بنفس بلائه فقال :” أتوجه إلى الأشخاص الأصحاء الذين يمكن أن يقعوا في مشكلة ما في حياتهم، ألا يقفوا عندها ..لان الحياة لا تقف عند الإعاقة ” .

2- دور الأهل والاصدقاء في مساعدة المعوّق أثناء مرضه، لقد كان من نصيب خلدون ان منّ الله عليه بعائلة تحبه ، وتؤمن بقدراته وتحضنه وتساعده وتقدم له كل التسهيلات الممكنة . كما أكرمه عز وجل بأصحاب وأصدقاء لم يتخلوا عنه في محنته، إذ قام ئاحدهم بصناعة فأرة للحاسوب تشغل بواسطة الشفة واللسان، وكان لهذه الخطوة دور الكبير في اخراج هذا الشاب من دوامة المرض والعجز إلى رحاب الحياة و العطاء .

3- دور الدولة في مساعدة المعوق على الاندماج مع غيره، وتهيئة العوامل التي تساعده على التغلب على اعاقته، مثل ايجاد المرافق والبرامج التعليمية، والأجهزة الطبية التي تمكن المعوق من ممارسة حقه في الحياة من دون صعوبات وتعقيدات .

هذا ولا يجب ان ننسى دور افراد المجتمع في تقديم العون وابداء المحبة والتفهم والاحترام لهذه الفئة من الناس، التي حث الاسلام منذ الف واربعمائة سنة ونصف على الاعتناء بها وتكريمها قبل ان تكرمها الاعلانات والاتفاقيات الدولية. ولعل سورة ” عبس ” اكبر دليل على هذا التكريم، حيث عاتب الله عز وجل رسوله الكريم عندما أعرض عن عبد الله بن أم مكتوم الأعمى لما جاء يسأله في أمور الدين، وكان النبي يحاور بعض أغنياء قريش أملاً في إسلامهم، فنزلت السورة لتكرس مساواة المعوق للسوي، باعتبار أن كليهما إنسان يؤدي دوره في المجتمع، وينبغي أن يجد من الرعاية والعناية والتقدير ما يجده الآخر .

اخيرا، لا بد من توجيه رسالة إلى الناس جميعاً الأصحاء منهم والمعوقين، فندعو بعض الأشخاص المتعافين إلى تقدير نعم الله عليهم، وإلى عدم القيام بالتصرفات المتهورة التي تحولهم من اصحاء إلى معوقين . كما ندعو البعض الآخر ممن يتمتع بقدرات عقلية وجسدية لا يحسنون استغلالها، إلى أخذ العبر من قصة خلدون وامثاله الذين لا يوجد في قاموسهم عبارة ” لا استطيع” .

اما بالنسبة لمن ابتلاه الله سبحانه وتعالى باحدى الاعاقات فنقدم له قصة خلدون كي يتخذها عبرة يستفيد منها. فالاعاقة قد لا تكون النهاية بل ربما تكون البداية لحياة جديدة. ولكب يخطو أولى خطوات هذه البداية لا بد من تحديد الأهداف بدقة ووضوح، واسمى هذه الأهداف كما قال الشاب خلدون “هو رضوان الله تبارك وتعالى، الذي خلقنا ليختبرنا فيرى الصابرين منا ويرى من ينقلب على عقبيه”، قال سبحانه: (وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ

الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ

جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)) (آل عمران).

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم