من نِعمَ الله تعالى علينا وتمام فضله وكرمه أن جعل لنا من أيام دنيانا أياماً لها من الخصوصية ما يحقق لنا الخير الوفير والثواب الجزيل..
هي مِنْحة وعرضٌ خاص لمن تاقت نفسه للتزود من الطاعات ولكسب الأجر والثواب… يتحيّن الإنسان في أمر دنياه ما يحقق له المكاسب أكثر، فإذا ما سمع عن العروضات المغرية عن السلع سارع إليها وسعى لاغتنامها.. فكيف بعرضٍ يزيد كسب طالبه ثلاثين ألف مرة؟
يقول تعالى: ﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ [القدر: 3] فيا أهلاً بكِ من ليلة! ويا مرحباً بما تحملين من أجر كبير.
وكم زهد بكِ مَنْ غفل! وضيّعك مَنْ جَهِل! يأتيه رمضان فيُمضيه بعيداً عما جُعل له ويعيش لياليه غافلاً عن قيامها والتزود من نفحاتها… روى ابن ماجه: «دخل رمضانُ فقال رسولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – : إِنَّ هذَا الشهرَ قد حضركم وفيه ليلةٌ خيرٌ مِن ألفِ شهرٍ، مَن حُرِمَها فقد حُرِمَ الخيرَ كلَّه، ولا يُحْرَمُ خيرَهَا إِلا محرومٌ» وروى البخاري: «مَن يقمْ ليلةَ القدرِ إِيماناً وَاحتسَاباً غُفِرَ لهُ مَا تقدَّمَ مِن ذنبِهِ».
ولئن تأملنا ما في هذه الليلة من بركات لوجدنا الكثير؛ فهي الليلة التي يُغفر لقائمها ما تقدم من ذنبه وما تأخر… وهي الليلة التي نزل فيها القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا… وهي الليلة التي قال فيها الله تعالى: ﴿ وما أدراكَ ما ليلةُ القَدْر ﴾ تعظيماً لها وتشويقاً لنا… وهي الليلة التي تهبط فيها الملائكة من كل سماء ومن سُدرة المنتهى فينزلون إلى الأرض ويؤمِّنون على دعاء الناس إلى وقت طلوع الفجر (تفسير القرطبي)… وهي الليلة التي تعوض قِصَر أعمار هذه الأمة؛ ففي موطأ الإمام مالك: «إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أُرِيَ أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر»… وهي الليلة التي يكون نهارها مباركاً مثلها وأفضل من باقي أيام رمضان… وهي الليلة التي خُصَت بدعاءٍ مستجاب بإذن الله; روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: «قلت يا رسول الله أرأيتَ إن علمتُ أيَّ ليلةٍ القدر، ما أقول فيها؟» قال: «قولي اللهم إنك عفوٌّ تحبّ العفوَ فاعف عني»… وهي ليلة خصّ الله نهارَها بعلامات كونية ليست بباقي الأيام.
حقّاً إن ليلة القدر هي فرصة العمر التي لا يجدر بأي مسلم أن يفوِّتها ويتهاون بها.. فلعله لا يُكتب له من العمر أن يعيشها مرة أخرى.. روى النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أتاكم رمضان شهر مبارك، فرض الله عزّ وجلّ عليكم صيامه، تُفتح فيه أبواب السماء وتُغلق فيه أبواب الجحيم وتُغَلّ فيه مرَدة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، مَن حُرم خيرَها فقدْ حُرم»، فلنهيِّئ أنفسنا لاغتنام هذه الفرصة
ولنضع برنامجاً تمهيدياً قبلها وبرنامجاً عبادياً فيها:
• الحرص على تمضية رمضان من بدايته بالطاعات والعبادات وقيام الليل وتلاوة القرآن لهو خيرُ ممهِّدٍ لليلة القدر..
• تنقية القلوب من المُلْهيات والمُشغِلات الدنيوية خلال الشهر الفضيل كفيلة بأن توصل القلب إلى الليلة الفضيلة مصوناً من الآفات والمانعات من الشعور بالصفاء وحلاوة العبادة ولذة المناجاة..
• التفكر واستحضار الأجَل، وأنه قد لا يُمهلنا لنعيش رمضان عاماً آخر يدفعنا لاغتنامه واغتنام ليلته المباركة والحرص على عدم فواتها.
• ولا بدّ أولاً، وقبل كلّ شيء، من استحضار أن هذه الدنيا زائلة زائفة، زائل كل ما فيها إلا العمل الصالح… فلنُكثر منه وخصوصاً في المواطن التي يكون فيها مضاعفاً أضعافاً..
اللهم إنا نسألك أن تُعيننا على طاعتك، وتيسّر لنا حُسْن عبادتك، وتتقبل أعمالنا وتجعلها خالصة لوجهك، آخذةً بنا لجنّتك واقيةً لنا من نارك… اللهم آمين