العاطفة والحب، والمودة والرحمة، والحلم والعفو بين الزوجين دعائم أساسية لاستمرار الحياة الزوجية ونجاحها، والناظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وحياته يجد أنه كان يحسن معاشرة ومعاملة أهله، ويُولِيهم عناية فائقة ومحبَّة لائقة، فكان مع زوجاته حنوناً ودوداً، تجلّت فيه العواطف والمشاعر في أسمى مظاهرها وأجملها، فكان يُكرم ولا يُهين، يُوجِّه وينصح، ولا يعنِّف ويَجْرَح، يمازحهن ويداعبهن، ويتحمَّل منهنَّ كما يتحمل أحدنا من أهله، وكان يوصي أصحابه بزوجاتهم خيراً، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذى جاره، واستوصوا بالنساء خيرا) رواه البخاري، وهو القائل صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) رواه الترمذي. قال ابن كثير: “وكان من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم، ويوسعهم نفقة، ويضاحك نساءه”.
الغيرة:
الغيرة معناها تغير القلب والغضب بسبب الإحساس بمشاركة الغير فيما هو حق الإنسان، وأشد ما يكون ذلك بين الزوجين، ويشترك فيها الرجال والنساء، وهي في النساء أكثر وأشد، والغيرة في موطنها والاعتدال فيها بالنسبة للرجال والنساء من جملة الأمور المحمودة، والحب ين الزوجين والمعاشرة بالمعروف تقتضي ذلك، ويجب على كل من الزوجين أن يُقّدِّر غيرة صاحبه ويصبر عليه.
حكمة النبي صلى الله عليه وسلم مع غيرة زوجته:
الغيرة من الزوجة على زوجها قد تقع من أفضل النساء، حتى لو كنّ زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، ومواقفه صلى الله عليه وسلم مع زوجاته الدالة على حسن خلقه معهن، وصبره عليهن في غيرتهن كثيرة، ومنها موقفه صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: (غارت أمكم). فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة (إناء) فيها طعام، فَضَرَبَتِ التي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِى بَيْتِهَا يَدَ الْخَادِم، فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فِلَقَ الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ويقول: غارت أمكم، ثم حبس الخادم حتى أُتِيَ بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كُسِرَت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كَسَرت) رواه البخاري.
وأخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه، قال: أظنها عائشة، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم لها بقصعة فيها طعام، قال: فضربت الأخرى بيد الخادم فكسرت القصعة نصفين، قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: غارت أمكم، قال: وأخذ الكسرتين فضم إحداهما إلى الأخرى فجعل فيها الطعام، ثم قال: كلوا فأكلوا)، وأغلب روايات هذا الحديث وردت مُبْهَمَة بلفظ: “عند بعض نسائه” وإن كان قد ورد في بعضها أنه في بيت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهو الذي عليه شُرَّاح الحديث.
لقد عزا النبي صلى الله عليه وسلم تصرف عائشة رضي الله عنها إلى الغيرة، وقام صلى الله عليه وسلم بجمع الإناء المكسور، وأعاد الطعام فيه، وأبقى لها الإناء الذي كسرته، وأرسل بإناء عائشة رضي الله عنها السليم إلى أم المؤمنين التي كُسر إناؤها معللاً فعله هذا بقوله ـ كما روى الترمذي ـ: (طعام بطعام، وإناء بإناء)، وأمر الحاضرين بأن يأكلوا الطعام، فأكلوه وانتهى الموقف عند هذا الحد، وذلك لحلمه وحكمته صلى الله عليه وسلم.
قال ابن حجر: “قوله: (غارت أمكم) اعتذار منه صلى الله عليه وسلم لئلا يُحمل صنيعها على ما يُذم، بل يجري على عادة الضرائر من الغيرة، فإنها مركبة في النفس بحيث لا يُقدر على دفعها .. وفي الحديث حسن خلقه صلى الله عليه وسلم، وإنصافه وحلمه”، وقال:” فيه إشارة إلى عدم مؤاخذة الغيْراء بما يصدر منها، لأنها في تلك الحالة يكون عقلُها محجوباً بشدة الغضب الذي أثارته الغيرة”. وقال الطيبي:” إنما أبْهِمَت عائشة تفخيماً لشأنها، وإنه مما لا يخفى ولا يلتبس أنها هي، لأن الهدايا إنما كانت تُهْدَى إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها“.
وقال الهروي: “وهذا من كمال حلمه وتواضعه، وحسن معاشرته وتعظيم نعمة ربه، (غارت أمكم): قال الطيبي رحمه الله: الخطاب عام لكل من يسمع هذه القصة من المؤمنين اعتذاراً منه صلى الله عليه وسلم لئلا يحملوا صنيعها على ما يُذم”.
وفي ذلك قيل:
وبعض الأمهات يوماً أرسلت إلى النبي بطعام صنعت
في صحفة لها لبيت عائشه قالت فغرت، فغدت مستوحشه
ثم ضربت الصحفة فسقطت للأرض ثم بالطعام انفلقت
فلمَّه المختار لا كمثلكم يقول للأصحاب: غارت أمكم
غيرة عائشة رضي الله عنها:
ليس هذا هو الموقف الوحيد لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في غيرتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى مسلم في صحيحه عنها رضي الله عنها: (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من عندها ليلاً، قالت: فغِرْتُ عليه، فجاء فرأى ما أصنع، فقال: مالكِ يا عائشة! أَغِرْتِ؟ فقلتُ: وما لي لا يغارُ مثلي على مثلِك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقد جاءك شيطانُكِ؟ قالت: يا رسول الله! أوَ مَعِيَ شيطان؟ قال: نعم، قلت: ومع كلِّ إنسان؟ قال: نعم، قلتُ: ومعك يا رسول الله؟! قال: نعم، ولكنَّ ربي أعانَني عليه حتى أسلم).. وهي القائلة رضي الله عنها: (ما غِرتُ على امرأة ما غِرتُ على خديجة، ولقد هلَكَتْ (ماتت) قبل أن يتزوَّجَني بثلاث سنين، لمِا كنتُ أسمَعُه يذكُرها) رواه البخاري، وفي رواية لأحمد أنها رضي الله عنها غارتْ من حسن ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على خديجة رضي الله عنها فقالت: (ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدق (كبيرة السن)، قد أبدلك الله عز وجل بها خيراً منها، فقال: صلى الله عليه وسلم: ما أبدلني الله عز وجل خيراً منها، قد آمنتْ بي إذ كفر بي الناس، وصدَّقتْني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها). وقد قيل في غيرة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها:
وأعجب الأشياء ذِكراً أنها تغار ممن كان مات قبلها
وهى خديجة العظيمة التي حازت مكاناً سامقاً في الرفعة
يقول خير الخلق عن خديجة كانت وكانت فهي خير زيجة
وكان يبعث الهدايا بعدها والأعطيات في صواحب لها
وعندها تضحى عويش واجمه غيْرَى وكانت بالوداد عالمه
قالت أليس في الوجود غيرها فقال: كلا لم يكن وما بها
قال النووي عن بعض مواقف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في غيرتها على النبي صلى الله عليه وسلم: “وهذا الذي فعلته وقالته رضي الله عنها حملها عليه فرْطُ الغَيرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سبق أنَّ أمر الغيرة معفو عنه”.
الغيرة شعور طبيعي وصِحِّي بين الزوجين، ولكنها عندما تتجاوز حدودها الطبيعية المعتدلة تنعكس سلباً على الحياة الزوجية، وتؤدي إلى مشكلات وآثار سلبية تنعكس على أفراد الأسرة جميعاً، ومن ثم تتطلب من الزوج الحكمة والحلم، وحسن الخلق وحكمة التعامل مع الخطأ، وقدوتنا في ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم الذي وسع خُلُقُه الكريم مواقف غيرة بعض زوجاته، وكان حاله معهن يعذرهن، وينصف بعضهن من بعض، من غير قلق ولا غضب، وموقفه صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: (غارت أمكم) هو خير شاهد على ذلك، لما فيه من دلالة على صبره على طبيعة الغيرة المتأصلة في الزوجة، وعدم مؤاخذته الزوجة الغَيْرى، وإحسان الظن بها، وتحمل ما يصدر منها، وعلاجه للأمور برفق وحلم، وتقديره لما يستتر خلف الغيرة من حب صادق وكامن له في قلب زوجته .. وهكذا يقرأ الزوج الوفي المحب الموقف السلبي الناتج عن غيرة زوجته بعين مفعمة بالحب والرضا، والحلم والصبر، واحتساب الأجر عند الله عز وجل، وقدوته في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم القائل: (غارت أمكم).