تظل قضية الرضا واستشعار أنعم الله على الإنسان وعدم السخط من قضاء الله وقدره أسمى دلائل الإيمان العميق المتأصل في الذات المؤمنة.
وحين يصف الله تعالى إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام يصفه بأنه كان ” شاكراً لأنعمه ” ( النحل : من الآية 121)، فكان اصطفاء الله له وتوفيقه إلى الصراط المستقيم.
وحين يجادل قومه في عبادة الأصنام ذاكراً نعم الله عليه يقول : ” الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ” الشعراء : 78 ـ 82 “.
وكان من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم ” فمن رضي فله الرضا ومن سخط فعليه السخط “، وكان من دعاء الصالحين : ” اللهم رضني بقضائك وصبرني على بلائك “.
ويعد ما تناوله الدكتور عبد الهادي مصباح أستاذ أمراض المناعة بكلية الطب جامعة القاهرة في مقاله المنشور بالأهرام حول قضية الرضا والقناعة ، محاولة جادة ـ وبلغة بسيطة مشوقة ـ لمعالجة حالات الاكتئاب المتزايدة وسط الشباب في الآونة الأخيرة.
بأسلوب قصصي ومنهجية علمية يكتب فيقول : دخل الأب على ابنه الشاب وهو يتناول طعام إفطاره وهو شارد الذهن عابس الوجه, تبدو عليه علامات الضيق والاكتئاب فسأله: ماذا بك؟ فأجاب الابن بعد تردد وإلحاح من الأب: متضايق.. أشعر أن كل شيء حولي سيئ.. أشعر أن مستقبلي غير واضح.. بل هو مستقبل مظلم.. لا أشعر بالسعادة مطلقا.. فماذا بقي في هذه الحياة يدعو للرضا عنها؟
واستمع الأب جيدا إلى ابنه, وتركه يفرغ ما بداخله من شحنات الغضب والسلبية حتى فرغ من كلامه, فربت على كتفه وجلس بجانبه, ثم بدأ كلامه معه قائلا: يا بني إن العبد منا لا يدرك حكمة الله سبحانه وتعالي في تصريف الأمور, فكم من خير فرحنا به ورقصنا له طربا فكان هو الشر بعينه, وكم من أمر ظنناه شرا وأقمنا الدنيا ولم نقعدها من أجله فكان هو الخير بعينه وعسي أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسي أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون صدق الله العظيم.
فسبحان الله من تجلي في سماه يرزق ويكرم ويعطي, فنعمه لا تعد ولا تحصي, والتفت إلى ابنه يسأله وهو يجلس إلى جواره: لقد سألت ما الذي يدعو إلى الرضا في هذه الحياة؟ هل تدري ماذا يدعو للرضا في هذه الحياة؟ تعال نسترجع معا نصف الساعة التي قضيتها منذ أن استيقظت وتناولت إفطارك حتى الآن.
لقد استيقظت يا بني من نومك وكنت دافئا ملتحفا في سريرك تحيط بك أربعة جدران وسقف بينما هناك من لا يجد حتى سقفا يؤويه, فلتحمد الله على هذا, ثم تحمده على أن رد إليك روحك بعد أن أمسك أرواحا أخري, وتذكر قوله عز وجل ( الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى) الزمر42.
فالنوم هو ميتة صغري, وبذلك أعطاك المولي جل وعلا فرصة أخري لكي تعدل مسارك وتتوب إليه قبل أن تلقاه, لتبعث على الإيمان والتوبة لأن المرء يبعث على ما مات عليه.
لقد سمعت جرس المنبه فأيقظك بينما كنت تغط في نوم عميق, فحاسة السمع هي الوحيدة من بين الحواس الخمس التي تعمل والإنسان نائم, ثم أنك قد سمعت وغيرك أصم لا يسمع, ففتحت عينيك ورأيت ضوء النهار فأبصرت وغيرك لا يبصر, وانتفضت من سريرك لكي تدخل الحمام,
تأمل جيدا أنك عندما أردت أن تقضي حاجتك قد استطعت أن تتحكم في نفسك, ولم يحدث هذا لك بشكل لا إرادي يجعل من حولك ينفرون منك, لقد أكرمك الله ودخلت إلى الحمام سائرا على قدميك, وقضيت حاجتك, وآه لو تعلم عظمة هذه النعمة,
ثم عاد الأب يعدد لابنه بعضا من النعم التي تحثه على الرضا خلال هذه نصف الساعة التي مرت به منذ استيقاظه وقال لابنه: لقد غسلت وجهك وتوضأت وتطهرت, وهناك من لا يجد مثل هذا الماء النظيف الذي يجب ألا تسرف في استخدامه, وخرجت وصليت فاحمد الله على نعمة الإيمان, فهناك من هم قلوبهم غلف الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم, وطلبت إفطارك من والدتك, فتحرك لسانك بما يريد مخك أن يقوله ويعبر عنه,
وهناك من لا يستطيع أن ينطلق, وإذا نطق لا يستطيع التعبير عما يريد, وإذا عبر لا يجد من يستمع إليه أو يفهمه, وأتت لك والدتك بهذا الطعام وأخذت تأكله واستطعت أن تفتح فمك وتمضغ طعامك بأسنانك, وغيرك لا يملكها, فأحسست بطعمه واستسغته وإلا لما أكلته, وهناك من لا يشعر بذلك لأنه يفقد حاسة التذوق, وأخذت تبتلعه دون أن يحدث لك مكروه مع أن إصابة عصب واحد يمكن أن تجعلك غير قادر على المضغ أو البلع,
فيدخل طعامك في جهازك التنفسي فتشرق أو تختنق, ثم إنك انفعلت وبدأت تقص على ما بداخلك وتلك نعمة يفتقدها الكثيرون ولا يستطيعون التعبير عما بداخلهم من مشاعر وأحاسيس, ووجدت أيضا من يستمع إليك وتلك نعمة أخري..
ونعم أخري كثيرة لا يتسع المجال لذكرها ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) صدق الله العظيم.
واعتدل الأب في جلسته وقال: أتدري يا بني ما ينقصك؟ إن ما ينقصك هو نعمة الرضا فأنت دائما تبحث عن الرزق المادي أو الايجابي, مع أن هناك الكثير من الرزق السلبي الذي منحك الله إياه ولا تشعر بوجوده,وهو ما يطلق عليه البعض البركة أو الستر الذي يجعل ما لديك يسترك ويكفيك, فالرضا ينبغي أن ينبع من داخلك, وتذكر أننا مخلوقون في هذه الدنيا في كبد( لقد خلقنا الإنسان في كبد) “البلد:4”، أي تعب ومشقة,
فيجب أن نتعامل معها في هذا الإطار ونصبر ونعمل ما علينا ونترك الباقي لله, فما بين غمضة عين وانتباهتها يبدل الله من حال إلى حال,وعندما يضيق بك الحال لا تقل يا رب عندي هم كبير ولكن قل يا هم عندي رب كبير,
وتذكر الحديث القدسي الرائع الذي يقول فيه رب العزة يا بن آدم.. عندك ما يكفيك, وأنت تطلب ما يطغيك, لا بقليل تقنع.. ولا من كثير تشبع.. إذا أصبحت معافى في جسدك, آمنا في سربك, وعندك قوت يومك, فعلى الدنيا العفاء.. يا بني ادع الله دائما بقولك: اللهم عرفنا النعمة بدوامها ولا تعرفنا النعمة بزوالها.
وحضن الابن أباه وقال: الحمد لله الذي منحني إياك, والحمد لله على نعمة الرضا, والحمد لله على نعمة الحمد, الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه.