الثلاثاء 26 نوفمبر 2024 / 24-جمادى الأولى-1446

على طريق الحب



منذ الأزل؛ وكل الفلاسفة وعلماء النفس يحاولون الوصول إلى تعريفِ الحبِ أو مفهوم الحب، وكل فيلسوف له رؤيته الخاصّة، وكل حكيم يرى الحبَّ من وجهة نظره، وعلماء النّفس يجتهدون ليجدوا له تفسيراً علميّاً. ناهيك عن العُشَّاق وتعريفاتهم، فكل عاشق يُعرِّف الحب على أنّه محبوبته، ويعطي اسمها ملخصاً للحب، وتكون هي تجسيد للحب لا يكون بغيرها.

واختصاراً لكل ذلك؛ فأنا أرى أن الحب هو حالة من الرُّقِي في أسمى أوجهها. الحب عاطفة، شعور لا يمكن للكلمات أن تَصِفه، حالةٌ كانت وما زالت مبهمة للجميع، ولكنها كحالة؛ فهي أسمى أوجه الرقي، الرقي في كل النواحي بلا استثناء. ولنفهم هذا الرقيّ في الحب، لا بدَّ لنا من استعراض أنواعه. هناك حبُّ صافٍ غير مشروط، وحبٌّ مشروط، وحبٌّ من طرفٍ واحد.

الحب الصافي غير المشروط؛ هو حبّ الأبوين لأبنائهم وحبّ الأبناء لأبويهم. هذا حبٌّ صافي غير مشروط، لا يأتي مع التجربة، ولست بحاجة إلى معرفة الطرف الآخر لتُحِبَّه. حبٌّ فطري لا سبيل للحياد عنه ولا إنكاره. الحبُّ المشروط هو الحب بين طرفين لأن كلاً منهما وجد في الآخر ما يرغبه، فهو مشروط بالرغبة وتحقيق ما يطلبه كل فرد من الآخر، وحين انتفاء هذه الشروط يزول الحب كما بدأ.

أمّا الحب من طرفٍ واحد؛ فكما هو واضحٌ من اسمه، هو أن يحب طرفٌ طرفاً آخر دون علم الطرف الآخر بذلك الحب؛ أو لرفضه ذلك الحب. وهذا أصعب أنواع الحب، فمن يُعطي يريد أن يأخذ بالمقابل ودون أن يطلب، لأنّه لو طلب لانتفت البهجة من الأخذ وأصبح بلا قيمة عاطفية.

 

الرّقي في الحب يكون في الترفُّعِ عن الشهوات، فلا يرى الحبيب محبوبه جسداً، ولا غاية له فيه إلا أن يكون معه. يعطي بلا مقياس ولا ينتظر المُقابل، سعادته تكمن في إسعاد الطرف الآخر، مجرَّد ابتسامة من شريكه تجعله أسعد المخلوقات، وحُزن الشريك يكون ضربة مؤلمة في أعماق قلبه. الحبُّ رُقي في التعامل المادي، فلا تكون المادة سبباً ولا هدفاً، إنما هي غاية لتحقيق سعادة الطرف الآخر. رقي في المشاعر، فلا يجرح الحبيب حبيبه ولا يؤذيه ولا يظلمه، ويرى الدّموع من الطرف الآخر كالخناجر تُمزِّق اوصاله.

 

الحب رقيٌّ في العطاء، فلا حدود للبذْلِ بينهما، ولا وجود لكلمة “كفى”. رُقي في الأخلاق، فكلاهما يحرص على أن يرتقي بأخلاقه من أجل الطرف الثاني، ويترفّع عن أي كلمة قد تؤذي مشاعره أو حتّى قد يكون لها معنيان. الحب هو المرادف للرُّقي التّام، سُمُوٌّ لا يُقابله سُمُو ولا يعلوه شيء، قمّة الرُّقي في الاحترام والتّقدير، فكلاهما يرى أنّ الطّرف الآخر أكثر مما يستحق؛ وأنّه فقط يحاول أن يرضيه. رُقي حتى في الخلافات، فلا تجد تجاوزاً ولا انتقاصاً من طرفٍ تجاه الآخر، وبعده يُسارع كل طرف لإرضاء الآخر، لماذا؟ لأنّه يحبّه.

 

الحب كلمة صغيرة بسيطة لا تحتوي أكثر من حرفين، ولكنه سر الوجود الإنساني وهو الصواب المتراكم على قلوبنا وأرواحنا ويقدم لنا الحل الدائم ليتمم الحياة بكافة ألوانها، وينتمي الحب إلى كثير من التصنيفات والدوائر، فمنها ما كان الأشد والأقوى وهي حب الله لعباده وخلقه وحبهم له ــــ سبحانه ــــ فهي الأقصى والأعلى والأسمى شرفاً، وهو السر الكامن في وجود هذا الكون العظيم، فقد خلقه الله بجزء الرحمة الأعلى وأوجده بإبداع عجز عن فهمه خلق كثير إلى يومنا هذا، ثم يتدرج الحب فيكون حب الوالد لولده وحب الأم لولدها فكان من الحب الثاني سمواً وعلواً في هذا الكون العظيم، فهي التي تحملت ولا يكون لها أن تبغض أو تخذل ابنها ولا والده كذلك فهو حب فطري فطر الله الناس عليه.

كذلك من الحب الذي انتشر صيته بين الناس حب الرجل لزوجه وحبها له فإنه حب لطيف السيرة حسن البقاء يقوم على مودة ورحمة بينهما تتسامى يوما بعد يوم. فهي تقدم له قلبها وعقلها وجسدها وهو يفعل المثل بحب ورحمة ومودة وتحمل لكل ما ظهر من سوء، ومتفاعلين في الخير والسعادة يقدمان للدنيا أسرة متماسكة ينبني عليها مجتمع بأكمله، فإن كان الحب صواباً صحيحاً وقلوباً متآلفة فهو مجتمع سليم متماسك قادر على إصلاح الكثير في المجتمع.

 

فعلياً الحب عبارة عن شجرة يتكون جذرها الذي يغذيها من الوفاء والأمانة والراحة للمحبوب، يليه ساق الاهتمام والرعاية والحنان، ثم أغصان المودة والرحمة التي تفيء على الأوراق وهي الثقة في البيت، والأمان والراحة والاطمئنان والعشق وكل تعابيره في تلك الأوراق والكلمات الجميلة، فالأوراق لا تستطيع العيش بدون تلك الأطراف من الجذر والساق والأغصان، فإن لم تتوافر العناصر السابقة فإن الورق سيذبل ولن يكون له أي معنى طالما أن الغذاء الذي سيصله غير كاف، وهو ما وصل إليه كثير من الناس للأسف مما أرداهم في حالة من عدم الثقة والشك الذي يقتل تلك العلاقة الجميلة بين طرفين، ولذلك فإن على أي محب أو محبة البدء دائما في تعزيز أواصر شجرة الحب من البداية فيبدأن بغرس جذر سليم قادر على مواجهة الصعاب والحياة القاسية لينمو ساق سليم، يتبعه نمو متوازن للأغصان التي ستحمل كل تلك المعاني الجميلة والمشاعر التي يستعجلون دائماً الحصول عليها، ولا يخفى على الجميع تلك الثمرات التي تنتج من الشجر السليم، فالشجر العفن لا يخرج ثمراً وهو الزواج والأبناء والعيش الطويل ومداد الحياة بين الطرفين.

 

كم هو جميلٌ الحب في معناه الراقي، وكل من جرَّبه في هذه الحالة هو من السعداء، فارتقوا إليه لترتقوا به، ابحثوا عنه ولا تفرضوه ولا تطلبوه، فالحب كالرزق، تسعى إليه لأنه لن يأتيك وحده، ولو طلبته لكنت شحاذاً، وأغلب الظن أن تسمع الطرف الآخر يقول لك: “الله يعطيك!”.

والحب لا يحلو إلا بالتعبير عنه، فإن أردت أن تصنع لحظة حب فهذا ليس شيئاً معجزاً ولا مستحيلاً، الأشياء البسيطة التي نفعلها لشركاء حياتنا هي التي تصنع مدينة الحب الكبيرة. فلو أردت أن تبني قلعتك الجميلة بحبك فعليك بكلام الحب وفِعال الحب وأيضاً بهمسات الحب اللطيفة.

أهلاً بكم في عالم ” الحب ” الجميل.

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم