الأثنين 25 نوفمبر 2024 / 23-جمادى الأولى-1446

عادات رمضانية



عادات رمضانية في الذاكرة البيروتية

تغيّرت العادات والتّقاليد التي درج عليها الآباء والأجداد في العاصمة اللُّبنانيّة “بيروت”، وتحوّرت مع جيل اليوم، كما حدث لكثيرٍ من المناطق في الوطن العربيّ، بفعل العولمة وانتشار التّلفاز والمعِدّات الإلكترونيّة الحديثة من جوّالٍ وإنترنت وما شابه.
وساعد على هذا الأمر الواقع المُعاش الضّاغط على الشّباب والأُسَرِ بشكلٍ عامّ، وسفر كثيرٍ من الشّباب والعائلات إلى الخارج بحثاً عن لقمة العيش، ممّا أدّى إلى انحسارٍ في العادات والتّقاليد الموروثة.

ولعلّ هذا البحث الصّغير يُلقي بعض الضّوء على العادات والتّقاليد التي درج عليها أهل “بيروت”.
فرح رمضان:

أ- اسْتِبانَةُ هلال رمضان:
درج أهل “بيروت” على تحوير لفظ “اسْتِبانَة رمضان” إلى “سيبانَة رمضان”، وفي هذه المناسبة كان البيارتة ينتشرون على شواطئ “بيروت” في 29 شعبان بهدف اسْتِبانَة هلال شهر رمضان المبارك. وكانوا يأخذون معهم إلى شواطئ الأوزاعي والرَّملة البيضاء والرَّوشة والمنارة بعض الأطعمة، لأنهم كانوا يقضون ساعاتٍ طويلةٍ قبل المغيب انتظاراً واحتفاءً بالاسْتِبانَة وبمَقْدَمِ رمضان المبارك. وإذا تبيَّن لبعض المسلمين المعروفين بالصِّدق ظهور هلال رمضان، كانوا يتوجَّهون إلى “المحكمة الشَّرعيَّة” للإدلاء بشهاداتهم الشَّرعيَّة، ومتى تأكَّد للمفتي والحاكم الشَّرعيِّ وقضاة الشَّرع أنَّ هؤلاء النّاس موضعُ ثِقة، يتداول الجميع بهذه الاسْتِبانَة ويتمُّ الإعلان عن بدء الصَّوم.

ب- دور الميقاتيّ:
تقتصر مسؤولية “الميقاتيّ” على تحديد ميقات الصّوم، ومن ثَمَّ مواقيت الإفطار اليوميّة طيلة الشّهر الكريم، فكان لكلٍّ من “بيروت” و”طرابلس” و”صيدا” و”بعلبك” “ميقاتيّ”، ومن هنا نشأت في هذه المناطق عائلاتٌ عُرِفَت بهذا اللَّقب.
وتطوَّرت هذه العادة فيما بعد، فصارت “دار الفتوى” في الجمهورية اللُّبنانيَّة هي التي تتولّى مسؤوليَّة تحديد يوم الصَّوم ومواعيد الإفطار والإمساك والصَّلوات الخمس عبر نشرةٍ يوميَّةٍ تُذيعها “المديريَّة العامَّة للأوقاف الإسلاميَّة”.

ج- المُسَحِّر:
كان “المُسَحَّراتيُّ” ظاهرةً رمضانيَّةً أساسيّة، وفي الغالب يكون من أبناء الحيّ، فيبدأ قبل الفجر بإيقاظ الصّائمين حتى يتناولوا سُحورَهم قبل الإمساك. وكان يضرب بواسطة عصا على طبلةٍ خاصّة، وكان يلبس الجِلباب المعتاد أو القُنباز والطّربوش.
وكان ينقُر على الطّبلة ثلاث نقْرات، يوقِعُها ويرسل بعدها نداءه لإيقاظ النّائمين: “عباد الله، وَحِّدوا الله”، “يا نايِمْ، وَحِّدِ الدّايِم”. وكلَّما وصل بيتاً نادى صاحبه باسمه، ودعاه لتوحيد الله.
وبين الحين والآخَر، يقف ليُنشد، بلَحْنٍ شَجِيّ، ابتِهالاً دينيّاً يُسَبِّحُ فيه الله، ويُمَجِّدُ آياتِه، أو يترَنَّمُ بمَديحٍ نَبَوِّيٍّ يُعَدِّدُ فيه مَحاسِنَ الرَّسول صلّى الله عليه وسلَّم ومآثِرَه. ومن ذلك:

1- المسكُ من خير الأنام يفوح، والنّور من وجه الحبيب يلوح، والأرض تشهد والسّماء، بأنَّه، ما مِثْلُهُ في العالمين مليح.
2- يا نائم اللَّيل كم ذا تنام، قُم واذْكُرِ الحيَّ الذي لا ينام، مولاك يدعوك لرحمته، وأنت مشغولٌ في طِيب المنام.
3- يا نايِمْ وَحِّدِ الدّايِم، عبادَ اللهِ وَحِّدوا الله.
4- قوموا على سْحورْكُم، جايي النَّبي يْزورْكُم.

وتضاء المنازل الغارقة في العتمة بيتاً إثر بيت، حتى يستيقظ الحيُّ كله، وعندها يغادر الحيَّ إلى شارعٍ آخَر قبل أن يدركه الصَّباح سيراً على الأقدام.
أمّا اليوم، ونظراً لكثرة النّاس في “بيروت”، ولانتشار سكن بعضِهم خارجها، واعتماد الكثير من الصّائمين على ساعاتهم، فإنَّ منظرَ المُسَحِّرِ قد اختلَف. فالمسحِّر اليوم يجوب الشَّوارع والأحياء على الدَّرّاجة النّاريَّة، وتطوَّر الأمر مؤخَّراً ليجوبَها في سيّارةٍ وبيده طبلةٌ ينقُر عليها ثلاث نقْراتٍ ويوقظ النّائمين بواسطة “الميكروفون”، بقوله: “يا نايِمْ، وَحِّدِ الدّايِم” مرَّةً واحِدَةً فقط ثمَّ ينطلق إلى شارعٍ أو حيٍّ آخَر، وكأنَّما هو يحافِظ على عادةٍ فولكلوريَّة، وَلَّتْ ومَضَتْ وانقضى زمنها، كي لا يطويها النِّسيان، وغالب من يقوم بهذا الأمر اليوم شبابٌ في بداية العشرينيّات من أعمارهم، ومعلوماتهم الإسلاميَّة سطحيَّةٌ وضَحْلَة.

د- احتفالات في شهر رمضان:
درج أهل “بيروت” على إقامة احتفالاتٍ دينيَّةٍ مميَّزةٍ في شهر رمضان المبارك في مساجد المدينة بحضور المفتي والأعيان ورجال العلم وجمهور المسلمين، كالاحتفال بذكرى “غزوة بدرٍ الكبرى” في 17 رمضان، والاحتفال بذكرى “فتح مكَّة المكرَّمة” في 21 رمضان، ثم الاحتفال الكبير بذكرى “ليلة القَدْر” في ليلة 27 رمضان.

هـ – التَّوحيش:
كان من عادة أهل “بيروت” أن يبدؤوا بممارسة “التَّوحيش” في العشر الأواخِر من شهر رمضان المبارك، تعبيراً عن تمسُّكِهم بهذا الشَّهر الكريم، وعن حزنهم بسبب قرب انتهائه. فيُكثِرون من التَّواجد في المساجد للصَّلاة والابتهال إلى الله تعالى، وسماع أناشيد الفرق الدّينيَّة التي تعبِّر عن وَحْشَةِ المسلم من انتهاء شهر رمضان المبارك.

و- يوم “الوَقْفَة”:
كانت مدينة “بيروت” ترتدي في يوم “الوَقْفَة” حُلَّةً جديدةً حيث “تتجَمَّل الشّوارع وتتزَيَّن، وتتلألأ الأسواق بالأنوار، وتتألَّق بالبيارق والأشرطة التَّزيينيَّة الملوَّنة. أما بيوت “القَبَضايات” فكانت تزيِّن شرفاتِها بالسَّجاد العجميّ، وتتصدَّر واجهاتِها صور “القَبَضاي” بثيابه العربيّة، وطربوشِه المائِل، وشارِبَيْه المعقوفَيْن، ونظرَتِه الجامدة، وسُحنَتِه الصّارمة الموحِيَة بالهيبة والوقار”.
أمّا اليوم، فإنَّ الزّينة تتلألأ في “بيروت” مع بداية شهر رمضان المبارك، ويكتب في أسفل الزّينة المضاءة بالكهرباء اسم الجهة التي وضعَتها، وجُلُّ هذه الزّينة لجهاتٍ تطلب الدَّعم من المُحسنين المُسلمين لتتمكَّن من الصَّرف على جهات الخير.

ز- مأكولات رمضان:
ما يميِّز شهر رمضان عند أهل “بيروت” هو تَفَنُّنُ النِّساء في تحضير المأكولات المنوَّعة والحلويّات، وخاصَّةً “الكِلاّج”. كما تُحضِّر النِّساء حلوى منزليَّةً يُسمّينَها “حلوى رمضان”، وتُبالِغْن في تطييبِها وتُوَزِّعْنَ قسماً منها على الأهل والأصدقاء.
ومن المآكل الرمضانية: شوربة العدس، الحُمُّص بطحينة، الفتّوش، كوسى باللَّبن، لبن أُمِّه مع الرُّزّ، الشِّشْبَرَك باللَّبن، فَتَّةُ الحُمُّص بالزَّيت أو اللَّبن، نقوعٌ بالرُّزّ، كفتة بالطَّحينة.
ومن المشارِب الرمضانية: ثلج رمضان، الدِّبس الرّائِب، العُرْقُسوس، الجَلاّب، التَّمْرُ الهِنْدِيّ.

فرح العيد:
كان فرح العيد يظهر في كلِّ شيء، في المأكل والملبس، وحتى في رُكوب الحمير والبِغال عند اليافِعين، وزيارة الأقارب والجيران والأصحاب لتبادل التَّهاني وتقديم العيديَّة للأولاد. كما يظهر في تناول المرطِّبات والمخلَّلات والمُعَلَّل والمأكولات الشَّعبيَّة والحلويّات من الباعة المُتَجَوِّلين.
أ- الاستعداد لعيد الفطر:
يبدأ الاستعداد لعيد الفطر السَّعيد قبل أسبوعٍ من انتهاء شهر رمضان المبارك، حيث يصطحب الأب أولاده معه إلى باطن بيروت لشراء الألبسة والأحذية الجديدة من أسواق “البلد” المتعدّدة. كما تشتري المرأة لِبَناتها الاحتياجات اللاّزمة للعيد، من سوق الأساكِفَة، وسوق البازِرْكان، وسوق بوابة يعقوب، وسوق السّاحة، وسوق سرسق، وسوق الأرمن، وسوق الطّويلة، وسوق أيّاس، وغيرِها.
وفي حال قرّرت العائلة تفصيل ثيابٍ جديدةٍ بدل شرائِها جاهزة، فقد يبدأ الاستعداد للعيد من أوائل شهر رمضان كي تتمكّن خيّاطة ثياب النِّساء والفتيات، وكذلك خيّاط ثياب الرِّجال والأولاد، من إتمام عملهما ضمن وقتٍ مريح، مع العِلم أنَّ الثِّياب الجاهزة في ذلك الوقت كانت قليلةً نسبِيّاً، وباهظة الثَّمن بالنِّسبة لذوي الدَّخل المحدود.

وفي يوم “الوّقْفَةِ” يكثُر ازدحام النّاس في مختلف الأسواق وأزِقَّتِها لشراء احتياجات الضِّيافة في العيد. “أما بائعو الحلوى، في ساحة البُرج، فقد كانت تتصدَّر محالَّهُم، صواني المعمول بنَوْعَيْه: بالفستق أو بالجوز، إذ لا تكتمل أجواء العيد إلاّ به. بينما كانت “البقلاوة” تتراجع في العيد لصالح المعمول”، ولا زال المعمول يتصدَّر حلوى العيد حتى اليوم.

ومن شدَّة الازدحام في هذا اليوم، كان يُخَيَّلُ للنّاظر أنَّ “بيروت” بأسْرِها خرجت إلى الأسواق، ولم يبقَ في البيوت غيرُ المُسِنّات اللّواتي انهَمَكْن بتحضير طعام العيد، حيث ستلتئم العائلة، في اليوم التّالي، بكِبارها وصِغارها على وليمة العيد. ويعتبر يومُ “الوَقْفَةِ” يومَ عطلةٍ غير معلَنَةٍ رسميّاً، لذلك كانت المدارس الرَّسميَّة والأهليَّة الإسلاميَّة تُعَطِّلُ في ذلك اليوم، وتَغُضُّ الدَّوائر الرَّسميَّة الطَّرْفَ عن الغياب الذي قد يحصل في صفوف موظَّفيها.

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم