الأثنين 25 نوفمبر 2024 / 23-جمادى الأولى-1446

ظاهرة العنف.. قراءة هادئة في الدوافع وتصورات للحلول



 

ظاهرة العنف.. قراءة هادئة في الدوافع وتصورات للحلول

د. أحمد بن محمد الدغشي 

(*) أستاذ أصول التربية الإسلامية المساعد –رئيس قسم العلوم التربوية والنفسية –جامعة صنعاء

يزداد قلق المخلصين في المجتمعات الإسلامية على وجه الخصوص من جراء التزايد الملحوظ في أعمال العنف التي غدت ظاهرة اجتماعية وتربوية تستدعي وضع سؤال كبير حول أسباب أو دوافع الأفراد والجماعات التي تتبنى هذا المسلك، وكيف يمكن التغلب أو الحد من تفشي هذه الظاهرة وتصاعدها على الأقل؟ خاصة وأن مستندها هذه المرة ذو طابع ديني ، بخلاف مراحل سابقة كان طابع العنف فيها بعيدا عن الدين وفكره.
ومن المؤسف أن تتركز جل الكتابات والخطب والأحاديث المتلفزة وجملة الفعاليات في هذا الاتجاه حول إدانة الظاهرة وكفى.
ولا شك أن ثمة دوافع وأسباباً عديدة كذلك لمن يتصدر الحديث عن الظاهرة على نحو من الإدانة والتبرئة دون تجاوز ذلك إلى ما هو أعمق، أي من حيث تشخيص الظاهرة ومحاولة علاجها. ومع أن هذه الدوافع تنطلق في غالبها لإدانة هذا المسلك من نية حسنة وتوجه صادق بيد أن الذهنية الآنية، وسياسة كل لحظة بلحظتها تجعل الحديث المُدين أقرب إلى الخلاص الذاتي وإثبات البراءة الشخصية أحيانا وإلى نفسية الانتقام، والاستغلال السياسي، واستعداء دوائر داخلية وخارجية على خصوم سياسيين تقليديين في المعترك أحيانا أخرى.
ومما هو جدير بالتنويه قبل البدء المباشر في سرد ما نحسبه أسبابا موضوعية أن هذه القراءة تمتد لتشمل الظاهرة من حيث هي بعيدا عن حصرها في هذا القطر أو ذاك، ذلك أن الظاهرة لم تعد قطرية فحسب بل غدت عالمية تتخذ ألوانا عدة، وصوراً مختلفة، لكنها في المجتمعات الإسلامية ذات الظروف المتشابهة تكاد تقتسم الأسباب الدافعة لتلك المسالك ومن ثم الحلول المقترحة لها ولذلك كان هذا المنهج في هذه القراءة.
دوافع الظاهرة:
تتوزع دوافع ظاهرة العنف على مجالات عديدة، تشمل التربوي والنفسي والفكري والأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي والأمني والخارجي وكل منها يستدعي محاولة للحل ولنبدأ بالدوافع على النحو التالي:
أولا: دوافع تربوية:
مع أن الحديث حول الأبعاد التربوية لظاهرة العنف حساس، ومَجْلَبَة لاتهامات مضادة، لا سيما مع اشتداد الحملة الأمريكية على مناهج التعليم الشرعية في المجتمعات الإسلامية إلا أن ذلك لا يعفي ذوي النظر البعيد من المعالجة الداخلية التي طال أمدها إلى أن جاء من يَرْغب في فرض مناهجه علينا، تحت ذرائع شتى. وصحيح أن محاولة تصحيحية للمناهج في هذا الظرف تحديداً لن تسلم من التأثر بتلك الحملة الإعلامية الأمريكية ومن سار في فلكها حتى في إطار المجتمعات الإسلامية ذاتها، غير أن التذرع دوما بسبب الظرف المناسب وغير المناسب تكأة ضعيفة، لسببين رئيسيين:
السبب الأول: إن ثمة حاجة حقيقية في أي منهج بشري للنظر فيه بين الحين والآخر لأنه وضع بشري يقدم في ظرف ما لمعالجة مشكلات أو توجيه تعاليم لئن كان لبعضها صفة الدوام والخلود بوصفها جوانب عقائدية أوعبادية لا يأتي عليها الزمان بالتغيير والتجديد فإن بعضها ليس كذلك، وما طرح بعض المقررات في بعض المجتمعات لمفهوم العقيدة والتوحيد وفق ما يظنونه منهج أهل السنة والجماعة والفرقة الناجية والطائفة المنصورة على نحو إقصائي منغلق محدود، إلا دليل صحة على ضرورة إعادة النظر بين الحين والآخر-دون مكابرة – ولكن بضوابط وشروط ليس هذا مقام تفصيلها.
السبب الآخر: إن التعلل بالظرف الزمني وأنه غير مناسب هرب من مواجهة المشكلة وإبقاء لها في خانة الترحيل إلى أجل لا يعلم مداه إلا الله، ذلك أن الأمة لا تزال تعيش في أوضاع طارئة، وتحت وطأة ظروف بالغة السوء والتعقيد منذ 1367هـ-1948م على وجه التحديد، ولذا فإن دعوى التوقيت المناسب يمكن أن ترفع في وجه المصلحين في هذا المجال أو سواه، في أي ظرف ذلك أن الأوضاع الطبيعية هي الاستثناء الذي لا يكاد يذكر، في مقابل وضع الأزمة الذي غدا هو القاعدة إلى أن يشاء الله، حين يتم تغيير ما بالأنفس.
من هذا المنطلق فليس أمامنا إلا مواجهة المشكلة بمراجعة صادقة أمينة لمناهجنا التربوية من ذوي الكفاءة والإخلاص والشجاعة من التربويين المشهود لهم بهذه السمات بعيدا عن تهويلات ذاك الطرف ومبالغاته غير البريئة غالبا، وتهوينات هذا الطرف وتسطيحه وتبريراته الدفاعية الضعيفة، مع كل التقدير له، إذ هو صادق في نيته، غيور على كرامة الأمة المتمثلة في تربيتها.
ومن القاعدة التربوية هذه وبعيدا عن هذا الرمز في منهج العنف أو ذاك يمكن عزو بعض أعمال العنف في أساسها إلى نمط التنشئة السائد في المجتمع الذي تبرز فيه هذه الظاهرة، وأعني بنمط التنشئة المعنى العام الذي تشترك فيه إلى جانب المدرسة: الأسرة ووسائط التربية الأخرى من مسجد وأجهزة إعلامية وجماعة رفاق، وأندية شبابية.. إلخ.
ومن الملاحظ أن المقررات المدرسية سواء في التعليم الأساسي أم الثانوي في المواد ذات العلاقة العضوية بالتنشئة الفكرية السليمة لا تولي شيئا يذكر لمفردات: التربية المدنية والحضارية السلمية. فأين مفردات القبول بالآخر القريب – فضلا عن الآخر البعيد – والتعايش الحضاري بين الأمم ذات الأديان المختلفة، وتحرير النزاع حول مفهوم الجهاد وفق رأي جمهور خصوصا، والخلاف المشروع بآدابه وقيمه وأخلاقياته، وفريضة الحوار الغائبة، وقيمة النقد الذاتي البناء وفقه تغيير المنكر ودرجاته وطرقه، والتوازن في التنشئة بين الروحي والعقلي والوجداني والجسمي، والتأكيد على نسبية الحقيقة في قضايا الاجتهاد ذات العلاقة بفروع الأصول أو الأحكام العملية وما يندرج في إطارها من رؤى وتباينات تتصل بالسياسة الشرعية أو الأحكام السلطانية، أو فقه المصلحة والمفسدة، وحق التعبير على المستوى الفردي أو الجماعي في ظل الثوابت العامة للمجتمع، والقواسم المشتركة والقواعد المرعية ؟هذا إلى جانب ضعف في القدوة العملية(المنهج الخفي ) وهي من أكثر الأساليب تأثيرا في الناشئة تجاه تجسيد هذه المسائل وتمثلها سواء في ذلك الأسرة، أم الإدارة، أم التوجيه، أم الوزارة، أم القيادة المجتمعية بعامة.
ومن المحزن أكثر أن لا تولي أي من الوسائط التربوية هذه القضايا اهتماما يذكر. وفي الوقت الذي تطرق فيه بعضها قدرا من ذلك فإنه يظل مرهونا بالمناسبات والظروف الطارئة، وفي العادة يتم تناوله بشكل ضعيف، مجتزأ، هش، مسطح ،أضف إلى ذلك الوقوع في تناقض سافر حينا، وخفي حينا آخر، بين أطاريح وفتاوى بعض القائمين على شئون التوجيه والتوعية في المساجد وبعضهم من جانب، وبينهم وبين وسائل الإعلام وما تبثه أو تذيعه، أو تنشره من جانب آخر، وهنا تزداد المشكلة تعقيدا، والجيل حيرة، ويبقى المصلحون المخلصون يحترقون في أماكنهم.
ولابد من الإشارة هنا إلى أن الوسيط الإعلامي الذي يفترض أن يكون الرديف والرافد القوي للمدرسة يعمل في الغالب، وخاصة عبر قنواته الرسمية في الاتجاه المضاد حيث يشايع التنشئة المنحرفة من خلال عرضه لأفلام العنف، حين يركز على الرجل الحديدي والخارق والآلي، والسوبرمان الذي لا يهزم.. إلخ وكذا بعض المسلسلات المتلفزة فإن بعضها لا يخلو من إيحاء وربما سفور بأن البطولة إنما هي لمن درج على العنف وسلك مسلك “القبضايات“!
أما ما يسمى بأفلام الكرتون التي تشغل الحيز الأكبر من فراغ الأطفال وحتى الناشئة الكبار فإن سوقها رائجة في الوسائل المرئية. وتهتم هذه الأفلام غالبا بحكايات المغامرات، وزرع الخرافة في نفوس الناشئة، إلى جانب غرس مسلك العنف كنمط سلوكي يرمز إلى معاني العظمة والتفوق والنجومية. وذلك كله يعني تنشئة مبكرة على تقبل هذه الظاهرة وسلوك مسلكها.
ثانيا: دوافع نفسية (سيكولوجية)
ومن الأسباب التي تقف وراء ظاهرة العنف التأثير النفسي (السيكولوجي) الذي سكن نفوس بعض الشباب العائدين من أراضي الجهاد الأفغانية أو الشيشانية، أو حتى من الذين كان لهم إسهام مباشر أو غير مباشر في مقاومة بعض الأطراف السياسية المسلحة التي مثلت يوما ما خصما مسلحا لهذا النظام السياسي أوذاك في هذا البلد أو ذاك.
لقد عبئ الشباب “المجاهد” في تلك الأجواء بأفكار مفادها أن حياة الجهاد هي الأصل، وأن السلم هو الاستثناء، وليس العكس كما هو مقرر عند جمهور الفقهاء في القديم والحديث، وأن الحياة بغير جهاد – حتى لولم تتوافر دواعيه وأسبابه تفقد معناها، إذ هي إخلاد إلى الدنيا ومتاعها ومن ثم فلابد أن يعيش الشاب المؤمن “المجاهد” أجواء الجهاد على الحقيقة، فإن لم تتوافر تلقائيا في بلده، فإن عليه السعي نحو خلقها، والتربية على مفاهيمها انطلاقاً من أحاديث صحيحة، غير أن فهمها لديهم خاص وغريب من مثل حديث “من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق” أو “مات ميتة جاهلية” فلا يستوعبون من ذلك إلا أن يظل المسلم شاهرا سيفه، أو متمنطقا بندقيته ما عاش، وإلا فإنه متوعد بميتة منافق، أو رجل جاهلي!!
ولا ريب أن تلك التعبئة كانت من الخطأ بحيث آلت مخرجاتها إلى أعمال عنف يذهب ضحيتها أبرياء مسلمون حينا، ومسالمون من غير المسلمين حينا آخر, وذلك حين يتم تعويض حرارة أجواء الجهاد ولهيب المعارك مع العدو الحقيقي بقتل سائح، أو تفجير منشأة، أو اغتيال خصم سياسي، تحت عنوان “الجهاد” كي يظل الشاب حاملا روح “الجهاد” مرتبطا بأجوائه، دون أن تفقده الخلطة الاجتماعية، ومفارقة أرض الجهاد الأولى نفسية المجاهد وروحه. وصحيح أن ليس كل فرد ذهب لديار الأفغان أو الشيشان أو البوسنة أو سواها يحمل بالضرورة هذا الاعتقاد أو يعيش بهذه النفسية، لكن حديثنا منصرف هنا إلى هذه الفئة التي تتركز كل الأضواء عليها دون من عاد فاندمج في إطار المجتمع وعاش حياته الطبيعية على نحو سلمي من غير أن يفقد روح الجهاد إذا ما دعا داعي الجهاد حقا، وتهيأت الظروف لذلك، وكذا من عاد فتفسخ التزامه بالقيم الإسلامية على نحو كلي أو جزئي – وليس الجهاد فقط – فبات فردا عاديا من زاوية الاستقامة، إن لم يكن قد تحول -كرد فعل في أجواء مغريات الدنيا ومفاتن الحياة- إلى شاب معاد لفكر الجهاد صحيحه وسقيمه، في الظرف المناسب أو غير المناسب، أي أنه لربما يكون تحول إلى خندق العلمانية أو ما هو شبيه بها.
ثالثا: دوافع فكرية وأخلاقية
لا يمكن إغفال دور التكوين الفكري والتنشئة الأخلاقية في المجتمعات الإسلامية عند الحديث عن ظاهرة العنف وازديادها، حيث إن جمهور هذه المجتمعات قد نشِّئوا على تقديس المعتقدات الدينية، ولا سيما الذات الإلهية وعدم التفريط بالقيم الاجتماعية والأخلاقية، بل والدفاع المسلح عن ذلك إن اقتضى الأمر. فإذا حدث تعد على الذات الإلهية على أي نحو، أو سخرية من المقدسات، أو تعريض بأي من القيم الأخلاقية والاجتماعية، فماذا ينتظر أن يكون رد الفعل ليس من قبل الشباب الذين يشار إليهم بأصابع الاتهام في أعمال العنف عادة، وإنما من جمهور المجتمع هذه المرة لحساسية الأمر وخطورته، وفقا لتنشئتهم الفكرية والأخلاقية.
ولا ننسى أن لدور الخنا في بعض المجتمعات الإسلامية مثل بعض الفنادق المشتهرة بممارسة الفجور وتقديم خدمات الدعارة وما يسمى بالمدن السياحية ونحوها دورا في تأجيج روح العنف لدى جمهور الشباب الثائر المتحمس.
رابعا: دوافع اجتماعية واقتصادية
وتتعدد مظاهر الدوافع الاجتماعية والاقتصادية لظاهرة العنف لتتمثل في مثل: غياب العدالة الاجتماعية، واستئثار فئة من ذوي النفوذ في المجتمع بالمال والثروة والتسلط السياسي والاجتماعي، وضعف أو انعدام تكافؤ الفرص في المشاريع والحقوق الاجتماعية الطبيعية والمدنية المتمثلة في التعليم الجيد، والعمل المناسب، والعلاج الصحي السليم، والسكن الملائم، والزواج الشرعي. هذا مع انتشار ظواهر التمييز الطبقي الاجتماعي، وبروز العنصرية بألوانها المختلفة، وغلاء المهور، في مقابل ازدياد طابور العزاب، وغلاء الأسعار بصورة عامة.
كما أن كثرة المشكلات الاجتماعية، سواء تجلت في صورة تعصب بين الأفراد والجماعات والأحزاب والقبائل وبعضها، وما يستتبع ذلك من ظواهر الكراهية والثأر والانتقام، أم كانت في صورة خلافات داخلية بين الآباء والأبناء والأزواج وزوجاتهم والأقارب وبعضهم. ذلك كله يمثل مناخا ملائما لتقبل أفكار العنف وثقافتها، كمخرج سريع من تلك الأزمات والمآزق خاصة إذا ما تطورت وتناغمت حتى بلغت حدا يصعب السيطرة عليه أو معالجته، أو هكذا يبدو الأمر.
ويبرز الوجه الاجتماعي -الاقتصادي للمشكلة أكثر حين نلاحظ مظاهر البطالة الصريحة، وتفشي ظاهرة التسول، في مقابل نهب المال العام، والخاص أحيانا من بعض ذوي النفوذ السياسي والاجتماعي، مع قلة في الدخل، أو انعدامه أحيانا من فئة واسعة من أبناء المجتمع.
ومع تعقد الحياة الاجتماعية المعاصرة، وتزايد أعبائها، وارتفاع تكاليف المعيشة، وكثرة الالتزامات المادية تجاه جهات عدة حكومية (ضرائب – أجور مياه وكهرباء وهاتف – ورسوم أخرى لا نهاية لها) وغير حكومية (التزامات أسرية وعائلية وقرابية عدة) فإن تربة العنف تجد خصوبتها في نفوس الشباب الذين يعانون من هذه الأزمات، إذ لسان حالهم يصرخ: ما معنى حياة كهذه؟ ما الذي بقي معنا لنفقده؟ أو نحرص في المحافظة عليه؟
خامسا: دوافع سياسية وقضائية
وتتمثل مظاهر هذه الدوافع في غياب المشاركة السياسية لشتى شرائح المجتمع، ومبدأ التداول السلمي للسلطة، وتزوير الانتخابات، ولا سيما البرلمانية منها، وقمع المعارضة السياسية على مستواها الفردي والجماعي، قمعا مباشرا بفتح السجون والمعتقلات لها، أو غير مباشر بتنحيتها عن المشاركة السياسية الفاعلة، حتى لو كانت ذات ثقل ووزن، ليس فقط من الوظائف السياسية والإدارية العليا ولكن حتى من المتوسطة والدنيا أحيانا. كما أن غياب دور القضاء، وتطبيق مبدأ سيادة القانون، وتفشي الفساد في الأجهزة القضائية، وعدم تطبيق الحدود الشرعية التي لا شبهة في تطبيقها في أوضاع الاختلال والاستثناء، أو تطبيقها على نحو انتقائي أو مناسباتي. ذلك كله يعني لجوءا إلى أقرب الطرق وأسرعها وهو أسلوب “الثورة” كتعبير عن اليأس والإحباط وفشل أي مشروع سلمي.
بل إن هذه المشاريع السلمية في نظر دعاة العنف ضرب من الخداع والوهم، إذ تؤكد تجارب العمل السياسي السلمية في غير ما قطر أنها ليست بأكثر من ديكور” تجميلي لتغطية عوار هذا النظام السياسي أو ذاك ويدللون على ذلك بما يحدث في الانتخابات النيابية – مثلا – من تجاوزات تصل حد تزوير إرادة الأمة، وبما يقع من تراجع في مساحات الحرية، وباستمرار مسلسل القمع، مع إضافة فنون جديدة في التعذيب في المعتقلات، أو كتم الأنفاس ومطاردة الشرفاء والأحرار خارجها، لتظل فئة من ذوي النفوذ السياسي هي المهيمنة على كل مفاصل الحياة السياسية، وإذاً فلا حل سوى البندقية!!
سادسا: دوافع أمنية
إن اعتماد الأسلوب الأمني أساسا في معالجة ظاهرة العنف هو الداء بعينه. إذ كثير من أعمال العنف هذه إنما ترد كرد فعل مضاد للعنف السلطوي والأمني. ولو تتبع باحث ما نشأة الظاهرة في العقود الأخيرة من القرنين الهجري والميلادي الماضيين لألفى السجون هي الحقل الأنسب لنشأة الظاهرة ونموها وانتشارها رغم غيابها العام قبل ذلك، من هذا الطرف المنتمي إلى الفكر الإسلامي وتحديداً.
إن التعذيب الوحشي الذي تعرضت له جماعة “الإخوان المسلمين” في السجون المصرية – مثلا – دفع ببعض أفرادها لطرح سؤال مفاده: لماذا ينزل علينا هذا العذاب؟ فيأتي جوابهم أنفسهم ولكن متسائلا مستنكرا: لأننا ننادي بتطبيق شرع الله؟ ليتفرع سؤال ثانً: هل يعقل أن يُعذَّب المرء من أجل هدف سام كهذا الهدف على أيادي أفراد يزعمون أنهم يؤمنون بالدين والشريعة؟ ثم يعقب ذلك جواب متسائل مستنكر كذلك: هل ما يزال هؤلاء الحكام الجلادون، ومن يقف وراءهم مؤمنون إذاً؟ وهكذا توالت الأسئلة حتى خلصت إلى استنتاج صريح وواضح حاصله: أنه لا يقبل من فرد أو نظام يزعم إيمانه بالدين وبالشريعة أن يعذب دعاتها على هذا النحو من البشاعة والتوحش ثم لا يكون قد خرج من ربقة الدين، وصار كافرا. وراحوا بعد ذلك يسوقون الآيات التي يوحي ظاهرها بكفران من لم يحكم بشريعة الله بصرف النظر عن ملابسات عدم تحكيمه وحيثياتها، وذلك ما دفع بالمرشد الثاني لجماعة “الإخوان المسلمين” المرحوم/ حسن الهضيبي لمحاورة أصحاب هذا الفكر بغية إرجاعهم إلى الصواب، ولما لم يجد ذلك أثرا معهم أخرج كتابه الشهير “دعاة لا قضاة“.
سابعا: دوافع أجنبية وخارجية
إن الصراع الحضاري الذي تتولى كبره اليوم الولايات المتحدة الأمريكية يمثل دافعا أساسا من أسباب انتعاش ظاهرة العنف وتفاقمها إذ إن التدخلات الخارجية في السياسة الداخلية لأي قطر، لا تقف عند حد إملاء سياسات تحفظ لقوى الهيمنة بعض المصالح التقليدية بل غدت سافرة بحيث تحولت السفارات الأجنبية وعلى رأسها سفارات الولايات المتحدة الأمريكية إلى مكاتب وصاية قسرية، وأعمال تجسس رسمية لفرض أنماط من السلوك السياسي والأخلاقي على الحكومات والشعوب وإن اختلفت طبيعة هذه الأنماط. أما وسائلها في تحقيق ذلك فعديدة غير أن أكثرها شهرة وممارسة فعلية هو فرض بعض الشخصيات “الوطنية” المعروفة بولائها المطلق للأجنبي على حين تعاني من ازدراء اجتماعي عريض على بعض المواقع السيادية للقيام بأدوار من شأنها الحفاظ على المصالح الأجنبية، ولو على حساب سيادة البلد وكرامة أبنائه، وسلامه الاجتماعي.
وفي هذه الأجواء يجد دعاة العنف أفضل الفرص لتسويغ فلسفتهم في التغيير عن طريق القوة، باعتبار أن ليس للنظام الرسمي أي قرار سوى دور المنفذ الأمين ولذا فإن خيار التغيير المسلح لا يعادله خيار!
وإذا أضفنا إلى جانب ذلك تمادي السياسات الأجنبية لإعلان حرب شاملة على كل مخالف لها كإدراج المنظمات المعادية للصهيونية أو المنادية بتحرير بلدانها من ربقة المحتل الأجنبي ضمن قائمتها الإرهابية؛ فإن الأمل يتضاءل أكثر بمعقولية أي بديل سلمي يجدي نفعا مع أوضاع بلغت من التعقيد هذا المدى.
وحين تجمع تلك السياسات بين تيار العنف ودعاة التغيير السلمي أو حركات التحرر الوطني في مجتمعاتها وتصم الجميع بالإرهاب وتبادل الأدوار فإن دعاة العنف يزدادون اقتناعا بصواب مسارهم وخطأ كل جهد سلمي وعبثيته.
واللافت للنظر أن دولة كانت تمثل امبراطورية عظمى بالأمس غير البعيد غدت اليوم تابعة بامتياز لسياسات الولايات المتحدة الأمريكية، لكنها تحافظ على رموز صارخة لتيار العنف، وتمنحها أقصى نطاق في الحركة والحرية، رافضة المرة بعد الأخرى تسليمها لحكومات بلدانها، أو للدول التي أحدثت في مجتمعاتها عنفا وزعزعة للأمن، باعتراف هذه الرموز ذاتها (أبو حمزة المصري نموذجا) على حين يتعرض أساتذة جامعيون سلميون من أمثال مازن النجار، وغازي العريان، وقادة فكريون حضاريون من أمثال عبد الرحمن العمودي ، ورجال إحسان وبر من أمثال يوسف ندا، أو قائمين على شئون ذوي الحاجة من المستضعفين من أمثال محمد المؤيد إلى شتى صنوف القهر والسجن والأذى، سواء في الولايات المتحدة أو أي من الدول الأوروبية التابعة لها.
تصورات للحلول:
إزاء ما سبق فلابد من بحث عن تصورات موضوعية لأفضل سبل العلاج، وبحسب اجتهاد كاتب هذه السطور فإنه يعتقد أن الحلول لظاهرة العنف يتكون من شقين:شق جُملي عام يتمثل في قطع تلك الدوافع المؤدية إلى نمو الظاهرة وتصاعدها. وشق تفصيلي يقتضي البيان على النحو التالي :
أولا: الحل التربوي:
يتجلى الحل التربوي في إدراك خطورة إغفال المناهج التربوية لمفردات التربية المدنية والحضارية المشار إليها عند ذكر الدوافع، والمسارعة إلى إدراجهامن ثم – عبر جميع المقررات الدراسية الشرعية وما في حكمها أو قريب منها كالتربية الاجتماعية والوطنية.إلى جانب توجيه النصوص الشرعية وإعادة النظر في بعض الأفكار والقراءات والنصوص التراثية والحديثة التي أدى فهمها يوما ما إلى تبني أفكار وأحكام لا تنسجم وروح الدين ومقاصده في التعامل مع الآخر القريب فضلا عن البعيد .
وكذا قيام الوسائط التربوية الأخرى من مسجد وأجهزة إعلام بدعم هذا التوجه عن طريق بث وإذاعة ونشر الوعي الحضاري السلمي والمدني، دون إغفال لفريضة الجهاد ولكن بعد تحرير النزاع حول مدلول هذا المصطلح وفق رأي جهور الفقهاء. كما أنه لابد أن تقوم الوسائل الإعلامية بأدوارها التربوية بدلا من الاستمرار في مسلسل الهدم عبر ما يبثه الإعلام المرئي خاصة من مسلسلات العنف، وأفلام الكرتون المعززة لهذا المسلك. ولا بد أن تتفاعل الأجهزة الرقابية الإعلامية في هذا الاتجاه لضبط مسار الإعلام الرسمي والخاص فليس ثمة حرية مطلقة تعبث بناشئتنا وتصوغه كما يهوى أعداؤه الحضاريون. الأهم في الأمر أن لا توكل هذه المهمة – مهمة الرقابة – إلى غير المؤهلين من الإعلاميين غير التربويين كي لا تقع تحت “إرهاب” مقص الرقيب بما يستأهل ومالا يستأهل.
ثانيا: الحل النفسي (السيكولوجي)
لابد من سياسة رسمية تعمل على استيعاب الشباب العائدين من مناطق الجهاد الخارجية أو “الداخلية” بإدماجهم في سلك القوات المسلحة، ووضع كل منهم في مقامه المناسب، ولا شك أن للوضع النفسي من حيث “تقدير الذات” وللوضع الاقتصادي من حيث “الحاجة” إلى نمط من العيش كريم أثرا في استمرار توجههم نحو العنف حتى داخل مجتمعاتهم. ومالا ينبغي تناسيه أن هؤلاء الشباب في جملتهم ممن لم يتورطوا في أعمال عنف حقيقية يمثلون ذخرا للمجتمع وللقوات المسلحة بصورة أخص، إذا أحسن تفهم دوافعهم النفسية، وتم صرف طاقاتهم في الوجهة التي تستأهل ذلك، وفي الوقت المناسب كذلك.
وهذا ما أثبتته بعض الأحداث في اليمن – على سبيل المثال – ومنها وقوفهم إلى جانب القوات المسلحة في حماية الوحدة والدفاع عن منجزها العظيم.
ثالثا: الحل الفكري والأخلاقي
ابتعاد الجهات التي تنزلق أو تتورط أحيانا على مستوى الأحزاب أو الأفراد أو سواهما في المساس بالمعتقدات الدينية أو التفريط بالقيم الاجتماعية والأخلاقية الثابتة، وجعل ذلك خطا أحمر لا يجوز الاقتراب منه.
فمسائل من جنس الذات الإلهية، والنيل منها على أي نحو، حتى لو كان غير مقصود، وقدسية الدين وكونه ثابتا من الثوابت وليس مسألة شخصية – بصرف النظر عن مدى الالتزام بمقتضياته عمليا – وتواضع أفراد المجتمع على حرمة الحرام المقطوع به مثل الخمر، والزنا، والربا، ومقاومة الرذيلة سواء في الإعلام المرئي على وجه الخصوص، أو الفنادق المشتهرة بتجارة الرقيق الأبيض، أو المدن السياحية، ذلك كله – على سبيل المثال – مما يفترض أن يكون محل اتفاق جميع شرائح المجتمع على مستوى الدول والجماعات والأفراد. والإجماع على ذلك من شأنه أن يقطع أسباب الانحراف في تغيير المنكر الذي يصل حد التغيير باليد وهنا يتحول إلى ضرب من “الجهاد“!!
رابعا : الحل الاجتماعي والاقتصادي
السعي الجاد للحكومة نحو تحكيم مبدأ سيادة والقانون في معايير توزيع المشاريع، وتطبيق مبدأ العدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص في حصول كل مواطن على حقوقه الطبيعية والمدنية في الثروة والتعليم والعمل، والصحة، والسكن، والزواج، والتخفيف من الأعباء الحكومية المثقلة لكاهل المواطن، ثم مقاومة ظواهر التمييز الاجتماعي والطبقي والعنصرية والتعصب بشتى صوره والكراهية، والثأر، بتعاون الجهات ذات العلاقة من تربية وإعلام وأمْن وقضاء وأوقاف (مسجد) كما أن سعي الوجهاء والمصلحين لاحتواء الخلافات العائلية والاجتماعية الخاصة من شأنه أن يقلل كذلك من فرص تقبل أفكار العنف التي لا تجد لها استجابة إلا في الأوضاع الشاذة وغير الطبيعية.
خامسا: الحل السياسي والقضائي
لابد أن تعيد السلطة السياسية النظر في سياستها تجاه مسألة مشاركة غيرها معها، وذلك حين تتوافر النية السليمة، والاستعداد الصادق للقبول بالمبدأ أولا، وتحكيم صندوق الاقتراع بعيدا عن الممارسات التي يشكو منها الجميع في محاولة الحصول على أغلبية بأي ثمن ثانياً، ثم تحكيم مبدأ التداول السلمي للسلطة وإفساح المجال أكثر للتعبير عن الرأي وفتح أبواب الحريات العامة في ظل الاتفاق على القواسم المشتركة والثوابت الدينية والوطنية الجامعة. مع صدق التوجه لإصلاح الأجهزة القضائية والأمنية ورفع الوصاية عنها، وخاصة الأولى منها بوصفها سلطة مستقلة، لا سلطان عليها، والمسارعة إلى تطبيق الحدود الشرعية تطبيقا عادلا وعاما، مع مراعاة الأوضاع الاقتصادية والسياسية السائدة في بعض المجتمعات، تلك التي تمثل سببا مباشرا للوقوع في بعض جرائم السرقة، والفواحش الأخلاقية، ليصبح التوجه الأساسي نحو إصلاح تلك الأوضاع، التي أدت إلى الوقوع في مثل هذه الجرائم ممكنا ومعقولا. وهذا لا يعني تعطيل تلك الحدود أو إلغاءها بالكلية وإنما دراسة الأسباب والدوافع الحقيقية الكامنة وراء السلوك المتصل بها، ومعالجتها ابتداء من تنفيذ الحد الأصلي على من يستحقه، مرورا بالتعزير ومستلزماته، وانتهاء بالعفو إذا رأى القاضي الشرعي المصلحة الشرعية في ذلك من منطلق الملابسات الدافعة إلى الوقوع أو التلبس بالجريمة.
سادسا: الحل الأمني
يجب إعادة النظر في السياسة الأمنية المتعلقة بمقاومة ظاهرة العنف، فأولى خطوات الحل هنا: التخلي عن الحل الأمني وحده، والاقتصار عليه عند الضرورة التي تقدر بقدرها، شريطة أن يظل محتكما إلى الشرع، خاضعا لأحكام القانون النافذ، من حيث فترة الاحتجاز، وأسلوب التعامل مع المتهم ونحو ذلك. واعتماد أسلوب الحوار الجاد المسئول: البديل الأصيل عن الحل الأمني، ولكن الأمر الأهم هنا هو: من هو المرشح للحوار مع هؤلاء الشباب؟ وما هي الموضوعات التي تطرق؟ وكيف تطرق؟ ومتى وأين تطرق؟ إذ أثبتت التجارب في غير ما قطر أن الشخصيات المقنعة لهؤلاء الشباب هي التي تحظى بثقتهم وغالبا ما تأتي من خارج دائرة السلطة.
كما أن الموضوعات التي يتم تناولها يحب أن تكون من الوضوح والصراحة والمباشرة بحيث تولد القناعة الحقيقية التي يمكن أن تثبت ويكتب لها الاستمرارية والنجاح، لا أنها مراوغة مؤقتة بهدف التخلص من أوضاع السجن أو المطاردة ونحو ذلك، أما أسلوب الحوار فلا بد أن يكون من التنوع والإثراء بحيث يشمل أساليب التغيير للمنكرات التي تم التزامها وتجسيدها عند سلف هذه الأمة في ظل حكم الإسلام، وكيف تعامل الراسخون الثقات من علماء الأمة معها، كما ولابد أن يكون أسلوب الحوار من المحاججة الهادئة والدامغة وفق المنطقين الشرعي والعقلي، بحيث يقطع أية حجة يتكئ عليها دعاة العنف، ويدحض أية شبهة يتشبث بها مروجوه، ومالم يتم تعاضد القوى المختلفة وفي مقدمتها السلطة السياسية مع هؤلاء المحاورين – بكسر الواو – لتُعَزَّز المصداقية لديهم، وتثبت بأنهم ليسوا خاضعين لأية جهة دفعت بهم إلى إجراء الحوار، دون أن يكون لديهم صلاحية تنفيذ ما يتفق عليه؛ فإن أسلوب الحوار يظل ناقصا، وقد يفقد معناه. ومن المعلوم أن بعض هؤلاء الشباب إنما يلجأ ون إلى العنف بعد محاولات سلمية في التغيير لربما تقمع أو يعاقب أصحابها بالسجن أو الحرمان من بعض حقوقهم المدنية الطبيعية، أو يظلون في عداد المطاردين، ولذا فإن رد الفعل يكون من العنف بحيث يصعب أن يصدق الشاب الذي سلك هذا المسلك جدية التوجهات في معالجة الاختلالات المختلفة على نحو سلمي.
وإذا رجعنا إلى الإجابة عن سؤال تم إيراده قبلا حول: متى وأين يطرق الحوار؟ فمن غير المعقول أن يكون ذلك بعد الاحتجاز الأمني إلا في أضيق نطاق. أما الأصل فيتم الحوار قبل الاحتجاز الأمني، وخارج غرف التحقيق و الزنازين، وفي الأجواء الحرة المفتوحة . ولذا فإنه بمجرد السماع بأن ثمة توجهات تدعو أو تسوغ لأعمال العنف على نحو مباشر أو غير مباشر فإن التوجه نحو محاورة هؤلاء هي أولى الخطوات، من غير انتظار حتى يقع الفأس على الرأس، على نحو ما رأينا في غير ما بلد عربي وإسلامي، وهنا يدعى العلماء الربانيون الواعون والدعاة والمفكرون المخلصون ليتولوا هذه المهمة مع تكثيف الفكر السلمي والحضاري والمدني في صورة محاضرات وندوات ومؤتمرات وتوعية عامة، لا تعني منازلة مناسباتية لفكر العنف، بل استمرارا في خط الاعتدال والوسطية، وإن كان ثمة سبب للتركيز والتكثيف، وهذا أمر غير مستغرب.
والحق أنه لابد من التأكيد على أن المعالجة الأمنية وحدها أخفقت في تحقيق نجاحات تقضي على الظاهرة بالكلية في أي قطر. قد يقال إن مراجعة الجماعة الإسلامية في مصر- تلك التي أزعجت ذوي النزعات الاستئصالية من رجالات الأمن أو النخب الثقافية و السياسية التي لايروق لها أن تعيش إلا في أجواء الفتن وكأنه اقتيات على خلفية صراع السلطات الأمنية مع هذه الجماعات- تخالف هذا الحكم أو الاستنتاج، إذ لم تتحقق تلك المراجعات إلا بعد الضربات الأمنية المتتالية المؤلمة التي تلقتها جماعات العنف . والواقع أن تتبع مسار نشأة الجماعة الإسلامية في مصر وتطورات تكوينها يكشف لنا أن هذه الجماعة كانت جماعة دعوية سلمية في تكوينها الأول، ولم تلجأ للعنف كاتجاه عام إلا كرد فعل معاكس لعنف الجهات الأمنية، ولذا فمراجعاتها تمثل عودة حميدة إلى مسار نشأتها الأولى، وكان السبب الرئيس في ذلك هو الحوار العلمي الفكري الحر، وليس استجابة أو خضوعا للحلول الأمنية، وأساليب التعذيب النفسية والجسدية. ويؤكد هذه الحقيقة اللواء فؤاد علام الخبير المصري في شئون الإرهاب والمسئول الأمني الأسبق في جهاز المخابرات المصرية (في أحد البرامج الحوارية المتلفزة لشهر رمضان المنصرم 1424هـ عبر محطة العربية الفضائية) أن الحل الأمني لم يجد نفعا يذكر وأن الحوار الفكري خارج السجون من قبل الشخصيات العلمية الشرعية والفكرية كان له أبلغ الأثر في إرجاع العديد من الشباب الذي كان مشبعا بثقافة العنف إلى جادة الصواب . أما الحوار تحت أقبية السجون فلم يكن سوى فصل تكميلي لا يمثل الأساس لمشروع الحوار الذي بدأ خارج السجن واستمر كذلك، ولكنه شمل من ضمتهم الزنازين أيضا .
أما أن يقال إن تلك المراجعة جاءت نتاج عقوبة السجن وظروفه العصيبة فذلك مالم تسنده الحقائق الموضوعية والشواهد المختلفة . فلئن كان ذلك صحيحا فقد يصدق على أفراد معدودين وغالبا مايأتون من الصفوف المتأخرة والشباب اليافع وليس من القيادات والشيوخ الذين يمثلون المصدر الأساس في تعبئة أفراد الجماعة ورجالاتها على مستوياتهم المختلفة . وهل يعقل ذلك بعد أن أمضى بعض رجالات الجماعة وقياداتها العليا فترات محكومياتهم التي يصل بعضها إلى عشرين عاما أو تزيد ؟ ثم لماذا يشايع قيادات الجماعة ورجالاتها خارج مصر هذه المبادرة ويباركونها، وهم في منأى عن الملاحقة الأمنية، بل حصل بعضهم على حق اللجوء، وما يوفره من امتيازات؟ وكان يكفي عدم ضلوع أي منهم في أعمال عنف في البلدان التي منحتهم هذا الحق ولنتذكر أن أمثال أبي حمزة المصري وأبي قتادة، وهاني السباعي وعمر بكري، في بريطانيا يعلنون الحرب صراحة على أنظمة بلدانهم التي تطالب بتسليمهم دون أدنى استجابة! كما لا يتردد هؤلاء في وقوفهم مع الحركات المتهمة بالإرهاب والتي تقود الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا قواتها للقضاء عليها كحركة طالبان ومنظمة القاعدة. ويمعن في الخطأ أكثر من يتمادى في استعمال الأسلوب الأمني حتى مع الأفراد والجماعات السلمية، التي هي ضحية مزدوجة لعنف السلطات، وعنف الجماعات المسلحة “الجهادية” معا في مصر خاصة، حيث تعدها الأولى دثارا مبطنا لجماعات العنف تهدف إلى الانقلاب على الحكم، على حين تعدها الأخيرة ستارا تجميليا لقبح السلطات “الجاهلية”، والأنظمة “الكافرة” وذلك حين توافق على الانخراط في الحياة السياسية، فتقبل الممارسة السياسية في صورتها التعددية أو مشاركتها في الانتخابات البرلمانية، أو ترشيحها لرئاسة الجمهورية.وبدلا من أن تستفيد النخب المثقفة في البلدان الخليجية وغيرها من التجربة المصرية في كيفية التعامل الأمثل مع جماعات العنف إذا ببعض الرموز في الخليج خاصة تعلن -في استماتة- رفضها للمراجعة المحمودة لبعض الشخصيات البارزة في تبني دعوة العنف ، وتنادي السلطات الأمنية الرسمية بعدم تصديقها في ذلك ، بل وعدم السماح لها بمثل هذه المراجعة ،إذ الحل الأمني هو وحده الذي يجدي في التعامل معها ، وقد برز ذلك بصورة سافرة في مراجعة الشيخين علي الخضير وناصر الفهد ، حيث أزعجت تلك المراجعة بعض المثقفين هناك، فراح نفر منهم يؤكد حتمية الحل الأمني وحده ، وعبثية الحوار مع هذه الجماعات ، فيما راح آخرون يناشد القضاء الإسراع في محاكمة من أعلن توبته منهم ، وينسى جميع هؤلاء( الرافض لفكرة الحوار من الأساس والداعي لمحاكمتهم ) أن في هذه الدعوات المبرر الكافي لرجوع من أعلن المراجعة إلى دائرة العنف من جديد، وتأكيد على صواب نظرة من لا يزال منهم مستمسكا بأيديولوجيا العنف باسم الجهاد ، كما سيوفر لهم طرح كهذا الذريعة للاستمرار في المسلك المنحرف مادام أن رؤوسهم مطلوبة على أي حال .
وليس لهذه الدعوات -في واقع الأمر – من منطق أو أسوة إلا بعض من تبقى من الحرس القديم لليسار وتحديدا من حزب التجمع المصري.و بدلا من المباركة التي كان يفترض أن يستبشر بها الجميع بعد إعلان رموز العنف أوبتهم إلى الرشد ؛ إذا ببعض تلك النخب تدرج خصومها السياسيين والفكريين – حتى الإصلاحيين المعتدلين منهم – في دائرة العنف ، وتستعدي السلطات الأمنية على جميع الإسلاميين الحركيين ، باعتبار أنهم جميعا على بساط واحد وإنما يتقنون توزيع أدوارهم ليس أكثر !.
إنّ القاعدة الأساس في هذا أن العنف لا يولد إلا مزيدا من العنف، والاستعداء غير الأخلاقي يدفع أحيانا إلى سلوك مماثل وذلك ليس في مصلحة أحد ،بل هو في يصب في خانة المتربصين بالمجتمع وطلائعه وسلامه الاجتماعي . وشواهد هذا حية في أكثر من قطر في عالمنا العربي والإسلامي. ويبقى علاج الفكر بالفكر أيا كان ذلك الفكر منحرفا أو شاذا .
إن الإصرار على المضي في هذا الأسلوب مهما كلف الأمر، وفي كل حال، ومع كل طرف مخالف، أشبه بمؤامرة داخلية أو خارجية تسعى لإعلان حرب أهلية، غير أن تنفيذها يتم بأيادٍ “وطنية” ترفع شعار الحفاظ على الأمن الوطني والقومي، أو المصلحة العليا.. إلخ على حين أن خصومها يزدادون كل يوم. وأكبر المصيبة هنا أن عددا منهم لا يستهان به كان يقف ضد ظاهرة العنف هذه، أو أنها لم تخطر له على بال من الأساس، غير أنه يجد نفسه وجها لوجه متهماً بها ولا مجال سوى الاتهام، فيضطر لتبنيها مالم فإنه مسجون أو مقتول، أو مطارد، أو… أو….
سابعا: الحل الأجنبي الخارجي
إن معالجة ظاهرة العنف من زاوية الدوافع الأجنبية الخارجية يقتضي تعاون الجانبين الداخلي والخارجي، ومع ضعف الأمل في استجابة الجهات الخارجية إذ إنها بلغت من الصلف والغطرسة بحيث لا تلتفت لنصيحة صديق؛ فإن الأمل لا يزال معقودا بإدراك الجهات الداخلية، ونعني بها السلطة السياسية أن تحرير قرارها من الارتهان للأجنبي هو الذي يضمن لها أن تحظى بالثقة الحقيقية من شعوبها، وأن تأمن جانب الاختلالات الأمنية التي قد تتفاقم فيصعب تطويقها أو السيطرة عليها، بل لربما تكون سببا في تهديد بقاء هذا النظام أو ذاك على مقاليد السلطة، ولذلك يظل في حال من الترقب لإعلان حالة الطوارئ وبعض الأنظمة تعيش حالة طوارئ مستمرة ولم تعرف مذاقا للشرعية الدستورية، رغم تعاقب حكامها من العائلة الواحدة ، غالبا بل هي في حالة الشرعية الثورية وهي مصرة على الاستمرار في ذلك تحت ذرائع متهافتة.
ومن اعتقد من ذوي السلطان أن الأجنبي حريص على بقائه، ومستعد للدفاع عنه مهما كلف الأمر، فإنه واهم لم يستفد من تجارب التاريخ البعيد والقريب، وما شاه إيران، وأنور السادات، ولا أتردد أن أقول (صدام حسين) عنا ببعيد.
إن الأجنبي لا يهمه بقاء شخص أو حزب أو نظام بقدر ما يهمه ضمان مصالحه واستمرار نفوذه بصرف النظر عن من يقوم بتولي المهمة فكلما ذهب عميل استبدل بعميل آخر غير مأسوف على سلفه.
إن المصالحة بين الأنظمة السياسية وشعوبها هي صمام الأمان الحقيقي الوحيد، الذي يفوَت فرص التطرف والجموح والإقدام على أعمال العنف التي تجد متنفسها في ارتهان أي نظام سياسي لهذه الدولة الكبرى أو تلك أو هكذا يبدو الأمر للشعوب، ومنها تيار العنف هذا.
وصحيح أن من المثالية بمكان تصور أن بالإمكان تخلي نظام سياسي ما درج على تقديم التسهيلات والخدمات الجليلة منذ عقود مديدة ربما، لهذه الدولة المهيمنة أو تلك دفعة واحدة، ولكن يمكن التفكير الجادّ في ذلك إذا صَدُقت النوايا ، عن طريق التدرج في مسلك الديبلوماسية الذكية، وبإجادة حصيفة للعبة التوازن في العلاقات الدولية، وبالاستناد إلى القوى الحية في المجتمع، وفي مقدمتها المعارضة الشريفة الجادة الصادقة، تلك التي تمثل قوة حقيقية مساندة للسلطة الوطنية الجادة الصادقة.
والله من وراء القصد
 

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم