السبت 23 نوفمبر 2024 / 21-جمادى الأولى-1446

طفلك ليس أنت



طفلك ليس أنت

ما أكثرَ شكايةَ الأمَّهات والآباء من الأطفال! تظنُّ الفتاة قبل زواجها أنَّ أمر التعامل مع الأطفال لن يُعْجزها كما أعجز غيرها من الأمَّهات، وترى تنطُّع البعض منهن، وتهاوُنَ البعض الآخر في سلوكهنَّ مع أطفالهن، والنتيجة واحدة.

شكوى مستمرَّة من الأطفال، ومَن يدُه في الماء ليس كمن يدُه في النار!

تتنوَّع تلك المشكلات تنوُّعًا كبيرًا؛ فهناك الطِّفل العدواني، والطفل العنيد، والطفل المستهتر، والطفل المسيطر، والطفل كثيرُ البكاء والصُّراخ، والطفل المهمل، والطفل الأناني، وغيرها من المشكلات التي ليس من السهل حصرها، فضلاً عن التغلُّب عليها وتقويمها.

ذَكَر بعض الكُتَّاب الغربيِّين في كتبٍ اشتهرَت بعنوان: “طفلك ليس أنت” أنَّ أغلب مشكلاتنا مع أطفالنا تعود إلينا نحن، فالأب أو الأم يظنُّ أنه لا بدَّ أن يكون طفله نسخةً منسوخةً منه؛ يحبُّ ما يحب من أنواع الطَّعام، ويُبْغض ما يبغض، ويَحتاج إلى نفس الوقت للتَّرويح عن نفسه، وبنفس الكيفيَّة التي يحتاج إليها الأبُ أو الأم!

يظنُّ أنه لا بدَّ أن يكره اللَّعب أو أفلام الكرتون، ويَراها ساذجة كما يراها هو، وأن يُحسن التَّعامل مع الناس، ويحسن انتقاء الألفاظ معهم، كما يفعل هو.

يظنُّ أن الطفل لا بد أن يفكِّر بنفس طريقته، وتكون له نفس ردود أفعاله، وهو في هذا العمر، ولا يفكِّر أنه في طفولته كانت له ردودُ أفعال أسوأ كثيرًا مما يرى من طفله!

وهذا الخلل الفكريُّ لدى المربِّي – في الحقيقة – يكون وراء الكثير من المشكلات مع الأطفال، ولا أقول: المشكلات التي يُحْدِثها الأطفال.

فالأطفال مظلومون مع المربِّين كثيرًا في هذا الجانب، الَّذي ليس من السهل ملاحظتُه، والتغلُّبُ عليه.

وللأسف الشديد، يلجأ أغلب الآباء والأمَّهات إلى تطبيق هذا المبدأ الظَّالم: “طفلي أنا” مع أطفالهم، حتَّى في تطبيق مبدأ الثَّواب والعقاب، فنراه يُكافئ الطِّفل، لأنه تصرَّف بما كان يريده أن يتصرَّف، بصرف النَّظر عن منطقيَّة تصرُّفه وصحته، أو عدم ذلك؛ فيكافئ الطفل الذي لا يحبُّ الجلوس لمشاهدة أفلام الكرتون، ويثني عليه لأنَّه يبتعد عن سفاسف الأمور، أو يستهزئ بالطِّفل الذي يلعب بالبيضة قبل أن يأكلها، ويحقر فعله بشدة؛ لأنه كرجلٍ بالغ لا يمكن أن يفعل مثل هذه الأفعال، ويراها سخيفة!

لنأخذْ مشكلة الطفل العنيد على سبيل المثال؛ كثيرةٌ هي الأسباب التي تدفع الطِّفل إلى هذا السُّلوك، لكن منها هذا المبدأ الذي نحن بصددِه والذي يتَّبعه المربِّي مع أطفاله، فيسعى جاهدًا لجعل الطِّفل نسخةً منه، وتعمل الأمُّ على تكوين شخصيَّة تُطابقها من ابنتها، وهَدْم شخصية الفتاة، ومحو سماتها تمامًا.

تظلُّ الأم تنهر ابنتها، وتوبِّخُها بأسلوب التقريع الَّذي لا يَرحم، والذي يعيه عقل الصغير تمامًا، ويجرحه كما يجرح الكبير، لكن هذا لا يعني أنَّ عليه أن يتصرَّف تمامًا كالكبير، ما دام يشعر ويفهم؛ فهو يفهم بقدر، ويشعر بقدر، لكن هناك شعور وألَمٌ نفسي، يدفع الطِّفل إلى سلوك غير مُحبَّب.

لمزيدٍ من الشرح؛ نأخذ هذا النَّموذج التطبيقي:

“رهف” طفلةٌ في التَّاسعة من عمرها، تجلس مع الضُّيوف، وتتسامر مع الفتيات وتلهو، ووالدتها ترقبها، وتلحظ كلَّ ما تفعل، وتسمع كلَّ ما تلفظ؛ “تطبق مبدأ عدِّ الأنفاس”؛ لتبدأ العقاب الفوري.

تطلب إحدى الفتيات من “رهف” أن تلعب معها إحدى الألعاب التي لا تحبُّها رهف، فترفض الفتاة بأدب، لكن قريبتها تصرُّ على لعبها، وتبدأ بالصِّياح، فتُسارع رهف بالصياح: لا أريد، الْعَبي مع غيري، فتبادر الفتاة: أنتِ لا تعرفين كيف تلعبينها؛ لهذا ترفضين، أنتِ لستِ ذكيَّة مثلي، وهنا تستشيط رهف غضبًا: بل أنت غبية!

فتقوم الأم من فورها إلى رهف، وترفع صوتها أمام الملأ: مهما أكرِّر عليكِ لا تفهمين؛ لأنَّك كما قالت الفتاة “غبيَّة”! إن لم ترغبي في اللعب، فاعتذري بِلُطف!

“رهف” تسرع إلى غرفتها، وتبكي، وتصرُّ في قرارة نفسها على تكرار هذا الفعل، وتكرار عصيان الأم؛ لأنَّها لم تُقدِّر لها أنَّها تمالكَتْ نفسها في البداية، ولم تلحظ حتَّى أنَّها تسعى لإرضائها.

مثل هذا الموقف المحزن تظنُّ الأم فيه أنها قد أحسنَت التصرُّف، وأن الطفلة لن تكرِّرها؛ لأنَّها أحرجَتْها على الملأ، وهذا جهلٌ عظيم، وظلم مبين، الطفل لن يزداد بهذا التصرُّف إلا عنادًا، وستعود الأمُّ تشكو مشكلةً جديدة: طفلتي عنيدة!

لنأخذ الطفل المهمل كمثالٍ آخَر:

يذهب “سامر” – سبع سنوات – إلى المدرسة، ويعود – بعد يوم شاقٍّ من اللعب والدراسة، والمشاحنات مع زملائه – إلى البيت؛ ليأكل ويرتاح قليلاً، ثم يبدأ بعمل الواجبات المدرسيَّة، يدخل البيت، ورائحة الطعام تَمْلأ المَنْزل، فيسارع إلى المطبخ، ويلتقط بعض حبَّات البطاطس ليأكلها، ثم يدخل الوالد ليراه.

الوالد: هل غسلت يديك قبل أن تفعل يا سامر؟

الولد: !!!

الوالد: هل استأذنتَ من والدتك لتأخذ البطاطس؟

الولد: آسف، كنتُ جائعًا.

الوالد – بغِلْظة -: أنت محرومٌ من تناول الطعام معنا اليوم، ولتكتفِ بما أكلت من بطاطس بدون إذْن، وبدون غسل يدَيْك، وقبل أن تعلِّق ملابسك وتلبس ملابس البيت، وعلى كلِّ حال، فلن أضربك، وسأكتفي بهذا العقاب!

الولد يَنْزوي في غرفته يبكي من الجوع، ويقسم بالله أنَّه لن يَغسل يديه، ولن يَمْتثل لتلك الأوامر السَّخيفة!

وإنْ أصرَّ الوالد، فسيدخل الحمَّام؛ لِيَتظاهر بغسل يديه، ثم يخرج، وقد انتصر على والده، وخدَعه!

أيُّها الوالد الفاضل، أيَّتها الأم الكريمة:

“طفلك ليس أنت”؛ كيف لطفلةٍ في التاسعة أن تملك أعصابها مع الضُّيوف إلى هذا الحدِّ؟ وكيف لطفلٍ في السابعة أن يُحْسن التصرُّف، ويملك جوعه، ويتأنَّى في كلِّ فعلةٍ يفعلها؟!

تصرُّف الأمِّ في الحالة الأولى ولَّدَ طفلةً عنيدة، وتصرُّف الأب في الحالة الثانية ولَّد طفلاً غير منظَّم، بل ومُخادع!

لهذا علينا أن نجعل عقاب الطِّفل في المجال المعقول، وفيما لا يخصُّ الاحتياجات الضروريَّة للطفل؛ كالأكل والشُّرب والنوم!

كذلك لا يكون العقاب لأنَّه لم يتصرَّف كالكبير، بل فيما يسَعُ الطفل أن يعِيَه، ويقتنع به.

وألاَّ يكون العقاب لمجرَّد تفريغ الشحنات الانفعاليَّة بداخلنا، بل للعقاب الحقيقيِّ والتأديب المثمر

كثيرًا ما نرى الأمَّ وقد اندفعَتْ نحو ابنتها أو ابنها تضربه، وهي منهارة عصبيًّا، ولا تكفُّ عن الضَّرب حتى تفرِّغ كلَّ الشحنة الانفعاليَّة بداخلها، وهنا خطأٌ مركَّب ترتكبه الأمُّ؛ فهي لا تُعاقب الطفل، وإنما تتخلَّص مما لدَيْها من غضبٍ بما تظنُّه عقابًا وتأديبًا، ولتعرف الحقيقةَ كلُّ أم، أنصحها بالخروج من الغرفة لمدة دقيقتين فقط، ثم تعود لتعاقب الطِّفل بما تراه مناسبًا، وبعد أن تكون قد استعاذت بالله من الشيطان الرجيم، وسترى الفرق!

كما أنَّ مسألة عقاب الطفل بما يفوق خطأه بمراحل أمرٌ غير مقبول شرعًا أو عرفًا!

فالحرمان من الطَّعام مثلاً لا يساوي ما فعله “سامر”، والتوبيخ على الملأ أكبر كثيرًا مما فعلت “رهف”، وإنما يختار المربِّي عقابًا مناسبًا يَقْبله الطفل، ولا يرى فيه ظلمًا.

هناك الكثير من الألعاب التي يحبُّها الطفل، بإمكانِك حرمانُه منها، ويكون ذلك بعد أن تُبيِّن له السبب، وتُناقشه فيه بهدوء، وتوضِّح له السببَ في حرمانه تلك اللُّعبةَ أو الخروج للتنَزُّه، وإياك ثم إياك أن يسألك الطفل عن سبب العقاب، فتقول بغضب:

  • هكذا.
  • أنأ أرى ذلك.
  • ممنوع النقاش.
  • لن أخبرك… إلى غيرها من الإجابات المُحبطة، والتي تولِّد في نفس الطفل شعورًا بالاضطهاد.

وختامًا:

يقول (ديل كارنيجي):

“أنا أحبُّ الطعام الشهيَّ، لكني لا أضعه للسَّمك الذي أريد اصطيادَه، وإنما أضع له الديدان التي يحبُّها هو”.

وفَّق الله كلَّ والد ووالدةٍ لحسن تربية أبنائهما، وإرشادهم إلى ما فيه الخير والصَّلاح، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه وسلَّم

________________

ديالا عمر

المصدر: موقع الالوكة

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم