الأثنين 23 ديسمبر 2024 / 22-جمادى الآخرة-1446

ضجيج السياسة



يُصِمُّ آذاننا، ويتداخلُ مع أحلامنا، ويختلطُ بغذائنا وشرابنا، ونرتديه إذا خرجنا إلى أعمالنا، أصبح التخلص من ضجيج السياسة شيئا عزيزا، حتى سياراتنا أصبحت تضبط إبرة موجاتها على القنوات الإخبارية، إلى أن تلوثت لغتنا اليومية بقاموس السياسة المزعج، فصارت جزءا من تعبيراتنا الإدارية والأسرية، بشكل مدهش، حتى أطفالنا صاروا يسألون ببراءة ومرارة: لماذا يُقتل هؤلاء؟ ولماذا يعتقل أولئك؟ ولماذا تدمر هذه البيوت؟ ولماذا يطردون من ديارهم؟ ولماذا كلُّ هذه الدماء؟

قَدُرُنا أن نعيش في معمعة قرن التحولات العالمية، والصراعات الفكرية، وأصبح أحدنا ـ وهو يعيش في بلد آمن مستقر ـ بين أن يستدبر كل هذه العواصف، ويعيش حياته الخاصة، ويؤدي واجباته العملية، فيرتاح من شقاء المتابعة المُرهقة، والأخبار الممرضة، ولكنه سيعيش مغفَّلا، بل سيعيش جاهلا أميا، في الزمن الذي أًصبح من الضروري أن يكون لك صوت، وأن يتكون لك رأي فيما يحدث، وقد يكون صاحب رأي ينتظره الناس.
وبين أن يعيش في وسط المعمعة، لا لأنه من أهلها، ولا لكونها من اختصاصه، ولا لقدرته على العطاء الإيجابي فيها، ولكن لأنها أصبحت تفرض نفسها عليه، وتلحُّ على عقله ولسانه، فيجد نفسه قد غرق في مائها الآسن، وتلطخ بخطيئاتها المزمنة، فإذا به يلتفت عن مهمته الأولى، وعمله الأساس، وهدفه السامي، فيضيع منه كل شيء، فلا هو أجاد في هذا ولا ذاك.
إن من الواجب علينا أن نتابع بتوازن لا يجعلنا ننزلق في الحمأ، ونسهم بحذر يجعلنا نحافظ على أصول ديننا العظيمة، ومكتسبات وطننا العليا، ومشروعاتنا النافعة، وحقوق أسرنا الخاصة، نشارك في تثقيف الآخرين بصدق وأمانة ووعي متجردين من التبعية لأي رأي، مهما كنا نقدر صاحبه، فدين المرء مسؤولية فردية، وما يعتقده ويدين الله تعالى به هو الذي سيحاسب عليه.

إن ضجيج السياسة أصمَّ عددا من كتابنا؛ فلم تعد كتاباتهم من أجل تنمية وطنهم، ولا للم الشمل وتقريب وجهات النظر من يمثلون النسيج الوطني بكل أطيافه، وإنما لتوظيف الأحداث بطريقة غريبة جدا، تنحو منحى إسقاط الفكر والصراعات الأيدلوجية الخاصة بهم عليها، والانتهازية غير اللائقة، مما يزيد من الفجوات بين أبناء الوطن الواحد.
لا يمكن أن نعيش على الكرة الأرضية ولا نتأثر بما في أجوائها، من عطور أو سموم، ولا يمكن أن نتداخل مع شعوبها بالإقامة بينهم لدراسة أو لعمل، وإقامتهم بيننا لدراسة أو عمل، ومع هذا التلاقح الحضاري اللحظي ثم لا يتأثر جزء منا بما يعتقد جزء منهم وبما يفكرون، ولذلك فإن علينا ألا ننشغل بالولولة والتندم والشتائم، عن العمل الواعي الرشيد لحماية أبنائنا وبناتنا من أن تسيخ أقدامهم في مهاوي الفكر المنحرف، أو تنجرف شخصياتهم في التيارات المشبوهة.
أصبحت السياسة مثل الهواء كل يتنفسها، وفي مثل هذه الأجواء المختلطة ليس صحيحا أن نحلم بأن يكون الناس كلهم على نمط واحد، فلتتسع صدورنا للخلاف السائغ، ونعمل على ردِّ المنحرف عن الجادة بالحسنى؛ حتى لا نخسره كليا، أو نفتح به جرحا جديدا.

ولابد من تبادل حسن الظن؛ فيمن يستحق أن نحسن الظن فيه، حتى نلتقي معه، فإن المبادرة بنبذه، والتشنيع عليه، والحكم مسبقا بأنه لن يقبل الحق، سيجعل فرص التشتت المجتمعي تتسع، في الزمن الذي نحتاج فيه إلى كل فرد بناء فاعل، وإن اختلفنا معه في فكرة أو فكرتين، لأن من نتفق معه تماما لا يوجد حتى في داخل الأسرة الواحدة، فكيف بوطن كقارَّة.

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم