قد تأخذك أعاصير الزمن المائج بعيدا عن مراكز الفرح في داخلك، وتزيد فتغبِّش رؤيتك لمصادره في حياتك، وتضاعف من عتوها وجبروتها فتبعد عن عينيك وقلبك بواعثه حتى إذا صدرت إليك ممن هم حولك، يخصونك بابتسامة؛ لتقابلها بشقيقتها، ويهدونك عطرا؛ لتستروح طعم الجمال في النسائم التي تمر برئتيك، لكنك تصد عن كل ذلك، وتستسلم لتلك الأعاصير دون أن تبذل أي مجهود في مقاومتها؛ لسبب واحد خفي؛ أتعرف ما هو؟ لأنها روّضتك قبل ذلك، ساخت رؤاها في كيانك، حتى ظننت بأن “الدمع خلقة في المآقي” كما قال شاعر العربية، بل قد تظن بأن الفرح لم يعد له وجود أصلا في زمن يترنح فيه الحزن ثملا في شرايين المنكوبين والمشردين والأرامل والأيامى واليتامى، وكأن قلب الفرح قد أصابته شظية طائشة من شظايا الانفجارات في العراق، أو تلوَّثت أنفاسه بكيميائيات طاغوت الشام، أو أصابته رصاصة يهودية اعتادت أن تغدر بضحكات أطفال فلسطين منذ عقود، حتى أصبحت أخاديد الجراح تتسع لكل دوائر الابتسامات بلا استثناء، أو هكذا تصورت!
قد تدهمني بقولك: وماذا عن دَيني الذي قد يدخلني السجون، ومرضي الذي أهرمني وأنا بعد لا أزال أتخطى دروب الشباب، وعيني الكسيرة وأنا أرى ولدي قد هدم أملي فيه، فليتك تعلم كيف نسيت هدأة النوم، وغادرني السكون حتى في منزلي الذي إليه آوي، وزوجتي التي إليها أسكن، وخسرت حتى خشوعي في صلاتي، وراحتي في حياتي.
فرَّ الفرح من أعين المتفائلين حين امتحنوا فيما كان سببا لسرورهم، وظنوا ألا عودة لطائره المرفرف أبدا، بل رأى بعضهم أنه لا يحق له أن يفرح بعد اليوم، فقد مات الولد الذي كان له الأمل، واحترق البيت الذي كان حصيلة العمل، وفقد الحبيب الذي كان له القلب محلّ، فبكوا من الحرمان حتى لم يبق دمع في المقل.
هكذا ينتصر الألم، ويعلن هزيمته للمحزون هزيمة ساحقة، حين يستقر في نفسه حتى تتلون به، وتتنشقه شخصيته حتى يتداخل مع تلافيف تفكيرها، فتظن بأنه ضربة لازب، وألا حيدة عنه أبدا، والأشد من ذلك أن تتعبد ربها به، ظنا منها أنه أصبح قربة من القرب.
وأتَلَفَّتُّ فأجد ربي قد ملأ كتابه بالنهي عن الحزن، {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات}، {لا تحزن إن الله معنا}، وأشار إلى آثار الحزن على لإنسان فقال جل وعزَّ: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [سورة يوسف – 84].
لا يمكن أن يعيش الإنسان بلا (فرح)؟ فالحقيقة الكونية تؤكد أنه ليس هناك حزن دائم، كما أنه لا يوجد فرح دائم، فلماذا لا نختلس من ساعات الحزن ـ مهما كان جاثما مسيطرا ـ سويعات، نطير بها إلى هناك، حيث مجرات الفرح تخلب الألباب برعشات أنوارها المبهرة، تخطف من قلوبنا بقايا أحزان تكلست على جدرانها، ونسينا أن نجلوها، فعشنا أسارى لها، وكان بإمكاننا أن نغسلها غسلا بعد أن أخذت نصيبها من زوايانا الخاصة، فالحزن شعور مهما بلغ، والشعور يتعلق بالفكرة، فإذا أجرينا تعديلا في تصورنا عن ماهية الحزن وحقيقته، ومدى قوته أمام قوة الإيمان، وقوة الصبر، وقوة التحمل، وقوة التغيير، وقوة الحزم، وقوة الإرادة، فلن يصمد الحزن أمام كل هذه المصدات، بل أمام هذه القوى البشرية، التي منحنا إياها خالقنا، فنسيناها في مستودعات نفوسنا، حتى صدئت.
العيد مجلبة للفرح، وفرصة لانتشال أمانة النفس من قاع الحزن، لرفعها إلى منازل الجمال والفرح والسعادة.
وكل عام أنتم بخير.