محنة هائلة..و أجواء من المخاوف و الهلع غير مسبوقة يعيشها العالم في زمن “الكورونا”.. و في مواجهة الشدائد, و زمن الوباء و انتشار “الكورونا” على هذا النحو , وما نجم عن ذلك من خوف و رعب ربما أكثر وطأة من المرض يقول لك طبيبك النفسي: لا بديل عن التمسك بالامل و التفاؤل و قبول الامر برباطة جأش حتى تنجلي الازمة و تضع أوزارها , وهذا سيحدث حتما كما مرت أزمات مشابهة بقدر من الخسائر لكن الحياة تستمر.
و من رؤية الطبيب النفساني حاولت هنا رصد بعض الملاحظات النفسية و الدروس المستفادة من زمن “الكورونا”, مع التأكيد على أن الأمر لا يخلو من ايجابيات وسط أجواء الخوف و القلق و الاعباء النفسية الهائلة المصاحبة لانتشار الوباء, فهناك الكثير من الدروس المستفادة من هذه الخبرة الصعبة يمكن ان يستخلصها من خلال التأمل في ما يحدث من حولنا.. وهنا نذكر بعض النقاط:
– دعوة للتفكر في مانتابعه من أحوال العالم في زمن الكورونا.. فقد خلت الشوارع من المارة، وأغلقت الأسواق والمحلات التجارية، وتوقفت معظم وسائل النقل لفترات طويلة من حظر التجوال الذي تم فرضه في معظم بلاد العالم, وكان اختياريا طبقه الكثير منا بدافع الخوف من الاصابة و العدوي من الآخرين..
– حركة المشاة والسيارات محدودة، وتعطلت الجامعات والمدارس و النوادي و الاماكن العامة، وأغلقت المساجد والكنائس في مشهد مؤثر لم نألفه من قبل حتي في أوقات الطواريء و الحرب.
– كل من فكر في السفر و الانتقال الى بلد آخر كانت الصدمة في عدم القدرة على تجاوز الحدود والمعابر، فقد أغلقت المطارات وتوقفت حركة المسافرين و الملاحة الجوية والبحرية..
– لامجال بكل السبل الممكنة الهروب من موضوع ” كورونا”، والتخلص من وساوس الخوف من المرض التي يطلق عليها”كورونا فوبيا” ..
– تذكرت حالات مرض الوسواس القهري الذين تزدحم بهم العيادات النفسية, و من أكثرها شيوعا حالات وسواس النظافة و الاغتسال حين يشكو المرضي و أقاربهم من تكرار غسل الايدي و الملابس لفترات طويلة, و المخاوف الوسواسية من المرض التي تصيب المرضي بالهلع من توقع الاصابة بالمرض وتحول حياتهم الى كابوس لايطاق, وفي زمن “الكورونا”نفعل جميعا مثل ذلك!!!
• من الاعباء النفسية في زمن “الكورونا” متابعة نشرات الأخبار اليومية و القنوات العالمية و مواقع التواصل و البرامج السياسية والاقتصادية والطبية والصحية التي تتحدث عن الوباء ليل نهار وتحذر منه، وتردد المعلومات عن مظاهره وتسجل حوادثه، وتنقل صوره من بلاد العالم وتنشر أخباره، وتحصي ضحاياه في بلاد الشرق و الغرب من الموتى والمصابين، وترصد آثاره الاقتصادية وتداعياته على حياة الناس و المشاهير و المخاوف حول مستقبل سكان الأرض (يطلق على هذه الحالة “قلق الوجود” الذي يعني الشعور بالخطر الذي يهدد الحياة و البقاء)
• أغلب الناس حاليا في أنحاء العالم يقضون يومهم في المنازل تبعا للتعليمات التي تصل الى الحظر الجزئي أو الكلي للتجول , الليل كله سهراً في متابعة أخبار الاصابات و الوفيات ، ثم يمضون سحابة النهار يقظة أو نوماً حتى تميل الشمس نحو الغروب أو تغرب، لينهضوا من نومهم ويعيدوا تكرار ايقاع الحياة السابقة في اجواء الترقب لما يأتي به الغد من جديد.
* وصمة المرض:
رغم أن الجميع يعلم أن المرض ليس عيبا , و لا يجب أن يتحول الى وصمة عار حيث لا يد للمريض في الاصابة في زمن الوباء أو في الاوقات الأخرى..و كان التركبز على هذه القضية (الوصمة) في زمن “الكورونا” ما لاحظناه و قمنا بمتابعته من أحداث و مواقف منها:
• نظرة المجتمع السلبية لمرضي وباء “كورونا”
• الابتعاد عن المصابين وتجنبهم والخوف و الفرار منهم
• وصل الامر الى محاولة منع دفن حالات الوفاة في المقابر خوفا من العدوى!!
• الاطباء و العاملون في الخدمات الطبية كانوا عرضة للتنمر من بعض فئات المجتمع , و الدعوة لعدم التعامل معهم خوفا من انتقال الفيروس منهم!!
– من الدروس المستفادة ان علينا إعادة ترتيب أولوياتنا في الحياة.. و لا داعي للانشغال بأمور تافهة كنا نوليها الكثير من الاهتمام!!
– يمكننا التخلي عن كثير من الاحتياجات غير الضرورية, وتغيير عاداتنا في البقاء طويلا في الاماكن العامة بعد أن عشنا تجربة الالتزام بالبقاء طويلا بالمنزل!!
– العمل ممكن ايضا من المنزل وقد تعلمنا ذلك في فترات الحجر المنزلي الاجباري أو الطوعي!!
– جاء الوقت الذي شعر فيه الكثير منا أن المال و المنصب و الممتلكات ليست بهذه الاهمية و لاتغني في مواقف الشدة و الخطر مثل زمن الوباء الذي يهدد الحياة و البقاء.. و الدرس هنا أن نخفف من وتيرة السعي اللهث وراء سراب فد يصبح بلا قيمة!!
ملاحظات نفسية:
هذه أوقات من التامل في أحوال الحياة .و فرصة منحها لنا “كورونا” ذلك الكائن غير المرئي ندين له بالفضل رغم انه أوقف حركة الكون , لكنها فرصة للتفكير و إعادة الحسابات.. و على المستوى الشخصي فقد كان من الدروس المستفادة لي في أوقات الحجر المنزلي أن وجدت وقتا متاحا للقراءة و لكتابة كتاب هو الاول – حسب معلوماتي – في هذا الموضوع يصدر مبكرا عقب انتشار الوباء .. وهذا الانجاز مثلا لم يكن ممكنا في ظل روتين الحباة قبل شهور!!..
لا داعي للقلق!!..لقد اعتاد البعض منا على طريقة تفكير تقوم على على تضخيم الخطر, وتوقع الاسوأ خصوصا مع حدوث شيء يبدو مخيفًا وغير معروف .. وكثير منا يشعر بالرعب من الإصابة بكورونا، وهذا على الرغم من أن احتمالات الوفاة من التدخين أو في حادث تحطم سيارة أعلى بكثير من احتمال الموت من الإصابة بكورونا.
“كورونا”..الفيروس الجديد أصبح يثير الخوف و الرعب أكثر من أي مرض او سبب آخر للوفاة ، وخصوصاً وأن العديد من المنصات الإخبارية، ومصادر المعلومات الأخرى عبر الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي تفرط في تأكيد المخاطر من الاصابة بالكورونا مع الكثير من المبالغة في المعلومات و الشائعات .. الوضع ليس خطيرا كما يتصور البعض بأنه يهدد الحياة..فالوقاية من الاصابة يمكن ان تتم بخطوات بسيطة, و كل ماعلينا الاهتمام بالنظافة و مراعاة المسافة و التباعد.
التباعد الجسدي”.. طوق نجاة حقيقي من «كوفيد-19″
و ينصح الاطباء النفسيون و علماء النفس بعدم متابعة الاخبار لوقت طويل على مدار ساعات النهار و الليل كما يفعل البعض..فكلما شاهدت أو قرأت لمدة أطول عبر الإنترنت أو على التلفزيون أو وسائل الاعلام دفعك ذلك للاعتقاد بأن هذا الانتشار لوباء “الكورونا” في كل العالم يعني أنك وأحباءك مهددون بالإصابة والوفاة، ورغم أن الوباء يوجد في مناطق كثيرة من العالم، وأن بعض المرضى يموتون، إلا أن هذا لا يعني أنك وأحباءك ستصابون حتما به!!!
لا يوجد تصور للخروج من هذا الواقع على المدى القريب..لكن رسالتي للجميع – من موقعي كطبيب نفسي – هي محاولة استخلاص بعض الدروس المستفادة من هذه الخبرة القاسية في زمن “الكورونا”:.
الكلمة الاخيرة..لا داعي للقلق أو الاستسلام لليأس.. و كل مانستطيع عمله في هذه المرحلة التي لانعرف متى تنتهي على وجه التحديد هو التمسك بالأمل و التفاؤل , و عدم التخلي عن إرادة الحياة.. علينا متابعة الموقف دون تهويل , و التوكل على الله مع الالتزام بتعليمات السلامة التي نعلمها جميعا, وبث الطمأنينة حتى تمضي أيام زمن “الكورونا” الذى سيمضي بكل تأكيد رغم أنه قد يتسبب لنا في بعض الخسائر و المعاناة قبل أن يرحل.
—————————————————————————–
بقلم د. لطفي عبد العزيز الشربيني