يعيش العالم المتقدم أزمة حضارة بسبب إفتقاده الوجهة أو الهدف الأكبر الذي يجذب إليه جميع مناشط الحياة، ويمنحها المنطقية والانسجام.
إنّ رسم الأهداف نوع من مدِّ النظر في جوف المستقبل، وإنّ الله عزّ وجلّ يحثنا على أن نتفكر في الآتي، ونعمل له: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحشر/ 18)، إنّ المسلم الحق لا يكون إلا مستقبلياً، ولكننا بحاجة إلى أن نعمم روح الالتزام نحو الآخرين على مسلكنا العام تجاه كل ما يعنينا من شؤون وأحوال.
** أهمية وجود الهدف:
من الأدوات الأساسية في تحسين وضعية الفرد أن يكون له هدف يسعى إلى تحقيقه. ونرى أن حيوية وجود هدف واضح في حياتنا تنبع من إعتبارات عديدة، أهمها:
1- إن كل ما حولنا في تغير دائم، والمعطيات التي تشكل المحيط الحيوي لوجودنا لا تكاد تستقر على حال، وهذا يجعل كل نجاح نحققه معرضاً للزوال؛ ووجود هدف أو أهداف في حياتنا، هو الذي يجعلنا نعرف على وجه التقريب ما العمل الذي سنعمله غداً، كما أنّه يساعد على أنّ نتحسس باستمرار الظروف والأوضاع المحيطة؛ مما يجعلنا في حالة دائمة من اليقظة، وفي حالة من الاقتدار على التكيف المطلوب.
وقد جرت عادة الكثيرين منا أن يسترخوا حين ينجزون عملاً متميزاً؛ مما يضعهم على بداية الطريق إلى أزمة تنتظرهم، ولذا فإنّ الرجل الناجح، هو الذي يسأل نفسه في فورة نجاحه عن الأعمال التي ينبغي أن يخطط لها، ويقوم بإنجازها؛ فالتخطيط هو الذي يجعل أهمية المرء تأتي قبل الحَدَث، أما معظم الناس فإنهم لا يفكرون إلا عند وجود أزمة، ولا يتحركون إلا حين تحيط بهم المشكلات من كل جانب، أي يستيقظون بعد وقوع الحدث، وبعد فوات الأوان.
2- إنّ وعي كثيرين منا بالزمن ضعيف، ولذا فإن استخدامنا له في حل مشكلاتنا محدود، وحين يجتمع الناس برجل متفوق فإنّهم يضعون بين يديه كل مشكلاتهم، ويطلبون لها حلولاً عاجلة متجاهلين عنصر (الزمن) في تكوينها وتراكمها، وطريقة الخلاص منها، ووجود هدف في حياة الواحد منا يجعل وعيه بالزمن أعظم، ويجعله يستخدمه في تغيير أوضاعه، إذا سأل كل واحد منا نفسه: ماذا بإمكانه أن يفعل تجاه جهله بعلم من العلوم – مثلاً – أو قضية من القضايا؟ فإنّه يجد أنّه في الوقت الحاضر لا يستطيع أن يفعل أي شيء يذكر تجاه ذلك، أما إذا سأل نفسه: ماذا يمكن أن يفعل تجاهه خلال خمس سنين؟ فإنّه سيجد أنّه يستطيع أن يفعل الكثير؛ وذلك بسبب وجود خطة، واستهداف للمعالجة، وهما دائماً يقومان على عنصر الزمن، فالخلل المنهجي في تصور أحوالنا، وحل أزماتنا، يعود إلى ضيق مساحة الرؤية، ومساحة الفعل معاً، وذلك كله بسبب فقد النظر البعيد المدى.
3- إنّ كثيراً من الناس يظهرون ارتباكاً عظيماً في التعامل مع (اللحظة الحاضرة) وذلك بسبب أنهم لم يفكروا فيها قبل حضورها، فتتحول فرص الإنجاز والعطاء إلى فراغ قاتل ومفسد؛ وهذا يجعلنا نقول: إننا لا نستطيع أن نسيطر على الحاضر، ونضبط إيقاعه، ونستغل إمكاناته، إلا من خلال مجموعة من الآمال والأهداف والطموحات، وبهذا تكون وظيفة الهدف في حياتنا هي استثمار اللحظة الماثلة على أفضل وجه ممكن.
** السمات المطلوبة في الهدف الجيِّد:
1- المشروعية:
إنّ مجمل أهداف المرء في الحياة، يعادل على نحو تام (إستراتيجية) العمل لديه، ولذا فإنّ الذين لا يأبهون لشرعية الأهداف التي يسعون إلى تحقيقها يحيون حياة مضطربة ممزقة، تختلط فيها عوامل البناء مع عوامل الهدم، وينسخ بعضُها بعضَها الآخر، إنّ الهدف غير المشروع، قد يساعد على تحقيق بعض النمو في جانب من جوانب الحياة، لكنه يحطّ من التوازن العام للشخصية، ويفجّر في داخلها صراعات مبهمة وعنيفة، وليس المقصود بشرعية الهدف أن يكون معدوداً في (المباحات) فحسب، وإنما المقصود أن يكون مندمجاً على نحو ما في الهدف الأسمى والأكبر الذي يحيا المسلم من أجله على هذه الأرض، ألا وهو الفوز برضوان الله عزّ وجلّ وهذا يعني أنّ الأهداف المرحلية والجزئية للواحد منا يجب ألا تتنافر معه في وضعيتها أو مفرزاتها أو نتائج تفاعلها، ولعل من علامات الانسجام بينها وبين الهدف الأكبر – شعور المرء أنّه يحيا (حياة طيبة) وهي لا تولد من رحم الرخاء المادي، ولا من رحم التمتع بالجاه أو الاستحواذ على أكبر كمية من الأشياء، وإنما تولد من ماهية التوازن والانسجام بين المطالب الروحية والمادية للفرد، ومن التأنق الذي يشعر به من يؤدي واجباته.
الهدف المشروع عامل كبير في إيجاد التطابق بين رموزنا وخبراتنا، وهو إلى ذلك مولِّد لما نحتاجه من حماسة للمضي في الطريق إلى نهايته.
2- الملائكة:
لكل منا طاقاته وموارده المحدودة، وله ظروفه الخاصة، وله إلى جانب ذلك تطلعات وتشوُّقات؛ ومن الواضح اليوم أنّ الحضارة الحديثة أوجدت لدى الناس طموحات فوق ما هو متوفر من إمكانات لتلبيتها، وهذا يؤدي بكثير من الناس إلى أن يسلكوا طرقاً غير مشروعة لتلبيتها، أو يؤدي بهم إلى الشعور بالعجز والانحسار.
والهدف الملائم، هو ذلك الهدف الذي يتحدى ولا يعجز، ومعنى التحدي دائماً: طلب تفجير طاقات كامنة أو استخدام موارد مهملة، لكنها جميعاً ممكنة. حين يكون الهدف سهلاً فإنّه لا يؤدي إلى حشد إمكاناتنا الذاتية، ولا إلى تشغيل أجهزتنا النفسية والعقلية، كما لو أننا طلبنا من شخص أن يقرأ في كل يوم ربع ساعة، أو يستغفر عشر مرات.
في المقابل فإنّ الهدف الكبير جدّاً يصد صاحبه عن العمل له، وفي هذا السياق نرى كثيراً من أهل الخير، يشعرون بالإحباط، ويشكون دائماً من سوء الأحوال، وتدهور الأوضاع، وهذا نابع من وجود هدف كبير لديهم هو (الصلاح العام) لكن ليس لديهم أهداف صغيرة، أو مرحلية تصب فيه، إن كل هدف صغير يقتطع جزءاً من الهدف الكبير، ويؤدي إلى قطع خطوة في الطريق الطويل؛ وعدم وجود أهداف صغيرة، يجعل الهدف النهائي يبدو دائماً كبيراً وبعيداً، وهذا يسبب آلاماً نفسية مبرحة، ويجعل المرء يظهر دائماً بمظهر الحائر العاجز، إنّه لا يأتي بالأمل إلا العمل، وقليل دائم خير من كثير منقطع.
3- المرونة:
إنّ أنشطة جميع البشر، تخضع لعدد من النظم المفتوحة، ومن ثم فإنّ النتائج التي نتطلع إلى الحصول عليها، تظل في دائرة التوقع والتخمين، حين يرسم الإنسان هدفاً، فإنّه يرسمه على أساس من التقييم للعوامل الموجودة خارج طبيعة عمله، وخارج إرادته، وهذه العوامل كثيراً ما يتم تقييمها على نحو خاطئ، كما أنّها عرضة للتغير، بالإضافة إلى أن إمكاناتنا التي سوف نستخدمها في ذلك هي الأخرى متغيرة؛ ولهذا كله فإنّ الهدف يجب أن يكون (مرناً)، أي: له حدود دنيا، وله حدود عليا؛ وذلك كأن يخطط أحدنا لأن يقرأ في اليوم ما بين ساعتين إلى أربع ساعات، أو يزور ثلاثة من الإخوة إلى خمسة وهكذا.. هذه المرونة تخفف من ضغط الأهداف علينا؛ فالناس يشعرون حيال كثير من أهدافهم أنها التزامات أكثر منها واجبات، والالتزام بحاجة دائماً إلى درجة من الحرية، وسيكون من الضار بنا تحوُّل الأهداف إلى قيود صارمة، وحواجز منيعة في وجه تلبية رغبات شخصية كثيرة.
4- الوضوح:
هذه السمة من السمات المهمة للهدف الجيِّد، حيث لا تكاد تخلو حياة أي إنسان من الرغبة في تحقيق بعض الأمور، لكن الملاحظ أن قلة قليلة من الناس، تملك أهدافاً واضحة ومحددة، ولذا فمن السهل أن يتهم الإنسان نفسه أو غيره بأنّه لم يتقدم باتجاه أهدافه خطوة واحدة خلال عشرين سنة، مع أنك لا تراه خلال تلك المدة إلا منهمكاً ومتابعاً بما يعتقد أنّه هدف يستحق العناء.
إنّه يمكن القول بسهولة: إنّ كل هدف ليس معه معيار لقياسه وللكشف عما أنجز منه، وما بقي ليس بهدف، ولذا فإن من يملك أهدافاً واضحة يحدثك دائماً عن إنجازاته، وعن العقبات التي توجهه، أما من لا يملك أهدافاً واضحة، فتجده مضطرباً، فتارة يحدثك أنّه حقق الكثير الكثير، وتارة يحدثك عن خيبته وإخفاقه؛ إنّه كمن يضرب في بيداء تعتسفه السبل، وتشتته مفارق الطرق! نجد هذا بصورة أوضح لدى الجماعات؛ فالجماعة التي لا تملك أهدافاً واضحة محددة، تظل مشتتة الرأي في حجم ما أنجزته، ولا يكاد خمسة من أبنائها يتفقون في تقويمهم لذلك! لا يكفي أن يكون الهدف واضحاً، بل لابدّ من تحديد توقيت لإنجازه، فالزمان ليس ملكاً لنا إلى ما لا نهاية، وطاقاتنا قابلة للنفاد، ثمّ إنّ القيمة الحقيقية للأهداف، لا تتبلور إلا من خلال الوقت الذي يستغرقه الوصول إليها، والجهد والتكاليف التي نحتاجها، ولهذا كله فالبديل عن وضوح الهدف، ووضوح تكاليفه المتنوعة، ليس سوى البعث والهدر والإستسلام للأماني الخادعة!
إنّ من أسباب ضبابية أهدافنا أننا لا نبذل جهداً كافياً في رسمها وتحديدها، وهذا لا يؤدي إلى انعدام إمكانية قياسها فحسب، وإنما يؤدي أيضاً إلى إدراكها بطريقة مبتذلة أو رتيبة، مما يُفقدها القدرة على توليد الطاقة المطلوبة لإنجازها.
سنعمل الكثير من أجل أهدافنا إذا أدركنا أنّه عن طريقها تتم الصياغة النهائية لوجودنا.
** مراحل بناء الخطة:
لمعرفة أهدافك بالتحديد ورسم خطة مفصلة لحياتك تمكنك بإذن الله تعالى من تحقيق السعادة والنجاح، يجب البدء في الخطوات العملية التالية:
1- كتابة كل ما تريد أن يحدث لك مستقبلاً بخط واضح.
2- ابحث عن موضوعات تخطيط الحياة ووضع الأهداف وإدارة الذات.
3- اقرأ الموضوعات بتعمق وعلى مهل ثمّ اطرح أسئلتك واستفد منها بالتفاعلية التي تمكن الإنسان من التعلم بطرح الأسئلة والنقاش والتعليق على الموضوعات.
4- دوّن ملاحظاتك وما استفدته وكذلك تساؤلاتك التي لم تجد إجاباتها الشافية بحيث تكون مقروءة ويمكن الرجوع إليها في أي وقت.
5- عندئذ أحضر ورشة عمل في التخطيط للحياة ووضع الأهداف مصطحباً معك ملاحظاتك وتساؤلاتك المكتوبة واحرص على أن تختار المدرب أو الأستاذ بحسب مدى قدرته في مساعدتك على إجابة التساؤلات والخروج بخطة وأهداف مكتوبة لحياتك.
6- حصر الاحتياجات وتحويلها إلى أهداف.
7- تحديد وترتيب الأهداف بحسب الأولوية، اختر الذي يلمس فؤادك ويحقق لك السعادة.
8- اقتراح برامج وأنشطة، أي تكون مع الحدث.
9- تحديد خطوات التنفيذ الفاعلة، أي تستحضر كل أدوات المشروع.
10- بناء البرنامج الزمني، فبدونه يكون طيش وتخبط في الهدف.
11- التنفيذ، ويكون ببذل الوسع والجهد والتوكل الصحيح وبقوة إرادة لا تقهر، بعدما يتأمل الإنسان ويتفكر ثمّ يخرج بأهدافه وخطته المكتوبة والتي ينبغي أن تحتوي على الخطوات والمهام المحتاج إليها لتحقيق ما يريد والجدول الزمني للقيام بذلك، تأتي مراحل تطوير الذات وهي مرحلة إدارة وتنفيذ تلك المهام خلال الجدول الزمني المحدد، وهذه هي المرحلة التي تفرق بين الجاد في تطوير نفسه وغير الجاد ففيها يقع الامتحان وتصدق مقولة الميدان! فما أكثر الحالمين وما أقل العاملين والسعيد من وفقه الله عزّ وجلّ لعمل ما ينفعه.
** تحذيرات هامّة قبل الشروع بالأهداف وكتابة خطة الحياة:
1- تذكر أنّه بدون تحديد وجهتك في الحياة ومعرفة رؤيتك ورسالتك لن يكون هناك فائدة لوضع أهداف ولن تكون في إمكانك رسم خطة مثمرة، فما فائدة معرفة أماكن الخطوات التي يخطوها الإنسان إذا لم يكن يعرف إلى أين يتجه! فالقاعدة تقول “إذا لم تكن تعرف إلي أين أنت ذاهب فلا فرق بين اي طريق من الطرق سلكت”.
2- ما الفائدة من وضع أهداف ورسم خطة إذا أدى ذلك إلى النجاح في جانب من جوانب الحياة مثل الثراء أو المنصب، وإلى الإخفاق في جانب أو جوانب أخرى من جوانب الحياة! تذكر أنّ السعادة الحقيقة هي الفلاح وهو في التوازن في الحياة بين ما لك وما عليك، ولذا فعلى الإنسان الواعي الذي يريد الفلاح أن يضع أهدافاً وخططاً متوازنة في جوانب الحياة المختلفة وللتذكير فإن هناك جوانب أساسية مختلفة في حياة كل واحد منا يمكن أن نجملها في سبع جوانب هامة وهي كما يلي:
أ- الجانب الروحاني.
ب- الجانب الصحي.
ت- الجانب الشخصي.
ث- الجانب المادي.
ج- الجانب العائلي.
ح- الجانب الاجتماعي.
خ- الجانب العلمي.
وتذكر بكل وضوح عندما تهب العاصفة الشديدة، فإنّها لا تقتلع إلا الّا الأشجار المرنة، فتعاهد أشجار حياتك بالسقي والعناية.
** صفات الهدف الجيِّد:
1- واضحاً ليس فيه غموض.
2- قابل للقياس.
3- واقعياً، ممكن تحقيقه في الواقع.
4- طموحاً، يتحقق من خلال الانجاز الجيِّد.
5- محدداً، مدة زمنية يتحقق من خلالها.
المصدر: كتاب (كي نحيا/ دروس في فن التواصل وإدارة الذات)