جريمة الانتحار: الأسباب والعلاج.
د. صالح بن علي أبو عرَّاد الشهري .
الحمد لله رب العالمين ، ولي الصالحين ، والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين ، نبينا محمدٍ بن عبد الله الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وصحابته أجمعين ، وبعد ؛
فتنطلق نظرة الدين الإسلامي الحنيف إلى الإنسان من كونه مخلوقاً مكرّماً ومُفضلاً على كثيرٍ من المخلوقات الأُخرى في هذا الكون ، قال تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) ( سورة الإسراء : الآية 70 ).
من هنا فإن اعتداء الإنسان على نفسه بالقتل أو ما يُعرف بالانتحار يُعد جريمةً بشعةً ومُفزعة لكونها اعتداءً سافراً وغير مُبررٍ على النفس التي جعلها الله تعالى أمانةً عند صاحبها .
ومما لا شك فيه أن تزايد نسبة حوادث الانتحار في مجتمعنا يُعد أمراً طارئاً ومُستغرباً ولاسيما أننا- ولله مزيد الحمد- نعيش في مجتمعٍ مسلمٍ يحترم النفس الإنسانية ، ويُعلي من شأنها ، ويُحرِّم قتلها أو تعريضها لأي نوعٍ من أنواع الإيذاء القولي أو الفعلي ؛ انطلاقاً من تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف ، وتوجيهاته العظيمة التي نهت عن ذلك الفعل الشنيع ، وشدّدت الوعيد لمن يأتيه أو يُسهم فيه بأي شكلٍ من الأشكال .
وفي اعتقادي أن هناك بعض العوامل الاجتماعية والنفسية التي قد تدفع بالإنسان الجاهل إلى الانتحار ، ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي :
1 ) ضعف الوازع الديني عند الإنسان ، وعدم إدراك خطورة هذا الفعل الشنيع والجريمة الكُبرى التي يترتب عليها حرمان النفس من حقها في الحياة ؛ إضافةً إلى التعرض للوعيد الشديد والعقاب الأليم في الدار الآخرة .
2 ) عدم اكتمال المعنى الإيماني في النفس البشرية ؛ إذ إن الإيمان الكامل الصحيح يفرض على الإنسان الرضا بقضاء الله تعالى وقدره ، وعدم الاعتراض على ذلك القدر مهما بدا للإنسان أنه سيءٌ أو غير مرضِ . ولا شك أن الانتحار لا يخرج عن كونه اعتراضاً على واقع الحال ودليلاً على عدم الرضا به .
3 ) غلبة الظن الخاطئ عند المنتحر أنه سيضع بانتحاره وإزهاقه لنفسه حداً لما يعيشه أو يُعانيه من مشكلاتٍ أو ضغوطٍ أو ظروف سيئة ، وهذا مفهومٌ خاطئٌ ومغلوطٌ وبعيدٌ كل البُعد عن الحقيقة .
4 ) الجهل والجزع وعدم الصبر ، والاستسلام لليأس والقنوط وما يؤدي إلى ذلك من الهواجس والأفكار والوساوس .
وقد يقول قائلٌ : لماذا لم يعرف مجتمعنا هذه الظاهرة إلا مؤخرًا ؟ وهنا تأتي الإجابة لتُرجع ذلك إلى أسبابٍ عديدةٍ يأتي من أبرزها :
1 – ضعف الوازع الديني عند بعض الأفراد أو الفئات التي تجهل خطورة نتائج هذا السلوك المنحرف ، وتجهل الحكم الشرعي لهذا الفعل المُحرّم بنص القرآن الكريم والسنة النبوية .
2 – الانفتاح الإعلامي والثقافي غير المنضبط الذي نعيشه في مجتمعنا المعاصر ، الأمر الذي دعا إلى تقليد الآخرين والتأثر بهم في كل شأنٍ من شؤونهم ، وهو أمرٌ غيرُ محمودٍ لما فيه من ضياع الهوية واستلابها .
3 – كثرة المشكلات الأُسرية التي أصبح مجتمعنا يعانيها ؛ والتي ترتب على انتشارها نتائج مؤسفة مثل التفكك الأُسري ، وانتشار بعض الظواهر الاجتماعية السلبية التي يأتي من أبرزها جريمة الانتحار .
4 – التأثر الشديد – ولاسيما عند صغار السن ومحدودي الثقافة – بما تبثه القنوات الفضائية من أفكارٍ وأُطروحاتٍ وموضوعاتٍ تحث بصورةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة على الانتحار ، وتجعل منه حلاً عاجلاً وسريعاً لكثيرٍ من المشكلات النفسية والاجتماعية التي يعاني منها بعض الناس .
أما علاج هذه الظاهرة فلا يمكن أن يتم إلا بالعودة الصادقة إلى الله تعالى ، والالتزام الصادق بما أمر الله به من أقوالٍ وأعمالٍ وأوامر ونواهٍ ؛ جاءت في مجموعها مُمثلةً لدور التربية الإسلامية ومؤسساتها الاجتماعية المختلفة في تحصين الفرد وحمايته من هذا الانحراف السلوكي الخطير عن طريق التالي :
أ ) التمسك بمبادئ وقيم وتعاليم وتوجيهات التربية الإسلامية الصحيحة في كل جزئيةٍ من جزئيات الحياة الفردية والجماعية ، والعمل على تطبيقها في واقعنا المعاصر لما في ذلك من ضمانٍ لتقديم الحلول الناجحة لجميع المشكلات والظواهر السلبية في المجتمع .
ب ) زيادة الجرعات التوعوية اللازمة لأفراد وفئات المجتمع عن طريق مختلف الوسائل الإعلامية والتعليمية ؛ لبيان خطر جريمة الانتحار وبشاعتها وما يترتب عليها من نتائج مؤسفة وعواقب وخيمة سواءً على الفرد أو المجتمع .
ج ) مراقبة الله تعالى في مختلف الأعمال والأقوال ، وفي كل شأنٍ من شؤون الحياة عند الإنسان ؛ إذ إن من راقب الله تعالى وخافه واتقاه لن يستحوذ عليه الشيطان ، ولن يلقي بنفسه إلى التهلكة . لأنه يعلم أنه سيُسأل عن ذلك أمام الله تعالى .
د ) محاولة تفهم الظروف والأسباب والدواعي التي قد تدفع بعض أفراد المجتمع من ضعاف الإيمان والبُسطاء في تفكيرهم ووعيهم إلى محاولة الانتحار ، ومن ثم العمل على مد يد العون والمساعدة لهم ، والإسهام في حل مُشكلاتهم وإعادة ثقتهم بأنفسهم . وبذلك يتم القضاء على أسباب هذه الظاهرة ودواعيها بإذن الله تعالى .
هـ ) إخضاع الظواهر السلبية في المجتمع للدراسة الجادة والبحث المُتعمق من مختلف الجوانب حتى تُعرف أسبابها ودواعيها ، ومن ثم تبدأ خطوات الوقاية منها ، وإيجاد العلاج المناسب لها والاجتهاد في تطبيق ذلك ميدانيًا .
وهنا تجدر الإشارة إلى أن حل هذه المشكلة والقضاء عليها مسؤوليةٌ عُظمى تشترك في القيام بها مختلف المؤسسات الاجتماعية الرسمية وغير الرسمية كالمنزل ، والمدرسة ، والمسجد ، والنادي ، وأماكن العمل ، ووسائل الإعلام ، وغيرها من المؤسسات ذات العلاقة بالإنسان في مجتمعه .
وفي الختام ، نسأل الله تعالى أن يحفظنا جميعًا من كل شر ، وأن يوفقنا إلى طاعته ، وأن يرزقنا حياةً طيبةً ، وأن يختم لنا بالخاتمة الحسنة ، وصلى الله وسلم على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين .