القاضي شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم
سيدٌ مِن سادات التابِعين، وفقيه مِن أبرَز فقهائهم، عظيمُ القدْر، وافِر العِلم، رفيع المنزلة، محوطٌ من الجميع بالتجلَّة والتوقير والاحتِرام، وكان إلى ذلك، أعلمَ الناس بالقضاء، ذا فِطنة وفراسة وذكاء نادِر، وعقل راجِح، ورأيٍ صائب، أدرَك الجاهليَّة، ثم أسلم وحَسُن إسلامه، وتفقَّه فبلغ الغاية أو جاوَزها، ورأَى فيه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه مِن صفات القاضي العادِل، ما جعَله يَستقضيه، فولاه قَضاء الكوفة، ومكث قاضيًا عليها خمسًا وسبعين سنة، لم يُؤثَر عنه في أثنائها أيُّ مَيل أو زيغ، ولم يتعطَّل عن القضاء في هذه المدة إلا في ثلاث سنين، امتنَع مختارًا من القضاء في مِحنَة ابن الزبير، فطلب إلى الحجاج أمير العِراق وقتئذٍ أن يُعفيه فأعفاه، ولم يقضِ بعد ذلك بين اثنَين حتى مات، وبارَك الله له في عُمرِه ومدَّ في حياته، حتى جاوَز المائة، ومات رحمه الله سنَة سبع وثمانين للهِجرة.
ذلكم هو القاضي الفاضِل: شُريح بن الحارث بن قيس بن الجَهْم، وهو كنديٌّ، وقد عرَف الناس فيه مِن أصالة الرأي، وبُعْد النظر – ما جعَلهم لا يَصدُرون عن أمر ذي بال إلا بعد مشورته، وكان إذا أشار بالرأي، فالقول ما قال، والصواب ما رأى.
رُوي أن زياد بن أَبِيه، كتب إلى معاوية:
“يا أمير المؤمنين، قد ضبْطتُ العِراق بشمالي، وبقيتْ يَميني لطاعتك، فولِّني الحجاز”، وكان زياد جبارًا قاسيًا لا تجد الرحمة إلى قلبه سبيلاً، فبلغ ذلك سيدَنا عبدَالله بن عمر رضي الله عنهما وكان مقيمًا بمكة، فقال: “اللهم اشغَل عنَّا يَمين زياد”، فلم يلبث أن أصابه الطاعون في يده اليُمنى، فجمَع الأطباء واستَشارهم، فأشاروا بالقَطع، فاستدعى القاضي شُرَيحًا، وعرَض عليه ما أشار به الأطباء، فقال له: “لك رِزق معلوم، وأجل مقسوم، وإني أكره أن تعيش في الدنيا بلا يَمين، وإن كان قد دَنا أجلك أن تلقى الله مقطوع اليد، فإذا سألك: لم قطَعتَها؟ قلت: بغضًا في لقائك، وفرارًا من قضائك”، ثم لم يَعِشْ بعد ذلك إلا يومًا، وقد لام الناس شُريحًا على منعِه مِن القطع؛ لبُغضِهم له، وتشفيًا فيه؛ إذ كانوا يُحبون أن يذوق من العذاب ما كان يذيقه غيره من الأبرياء، ولكنَّ شُريحًا يقول لهم: إنه استشارَني، والمُستَشار مؤتمن، ولولا الأمانة، لوَددِت أنه قطَع يده يومًا، ورجله يومًا، وسائر جسدِه يومًا يومًا.
واستشارَه صديقه العلامة الجليل القدْرِ الكوفيُّ التابعيُّ أبو عَمرو عامر بن شُرَحْبيل، المعروف بالشعبيِّ، استشارَه حين همَّ بالزواج، فقال له: “لا تَعْدُ نساء بني تميم، وعليك بهنَّ؛ فإني رأيت لهنَّ عقولاً وأدبًا وعِفَّةً وحسْن تبعُّل وطاعة”، وكان شُريح قد أصهَر في بني تميم، ساقَ إليه القدر زوجَه على غير سابق مَعرِفة، وخَبرُ ذلك أنه أقبل ذات يوم مِن جنازة وقت الظهيرة وقد اشتدَّ الحرُّ وانتعل كل شيء ظلَّه، ومرَّ في طريقه بدار مِن دور بني تميم، وإذا هو بعجوز على باب دارِها، وإلى جانبها فتاة بارِعة الجمال، ذات رُواء، تَفتِن الناظر، فعدَل عن الطريق، ومال نحو العَجوز، وتعلَّل بطلب شربة ماء، وأغلب الظن أنه أراد أن يعلَم شيئًا عن الفتاة، ولكنَّ العجوز تقول له: أي الشراب أحبُّ إليك؟ قال: ما تيسَّر، قالت العجوز: ويحك يا جارية، ائتيه بلبن؛ فإني أظنُّ الرجل غريبًا، وفرصة انتهَزها، فسأل: مَن تكون هذه الفتاة؟ قالت: هي زينب بنت جرير، إحدى نساء بني تميم، قال: أهي فارِغة أم مشغولة؟ قالت: بل فارغة، قال: أُتُزوِّجينيها؟ قالت: إن كنتَ كفْئًا لها، وجاء اللبن، فشَرِبه شُريح، وانصرف مُفكِّرًا إلى داره، ليأخذ حظَّه من نوم القائلة، ولكن الفتاة تقَع مِن قلبه فامتنعَت عليه القائلة، فنهَض وصلى الظهر، وارتدى ثيابه، وقصد جماعةً مِن العرب الأشراف، وأخذ بأيديهم، يَبتغي يد عمِّها، واستقبَلهم العمُّ، وقال: ما شأنك أبا أمية؟ قلتُ: زينب ابنة أخيك، قال: ما بها عنكَ رغبة، ثم زوَّجَنيها.
قال الشعبي: ذلك إليك الآن يا أبا أمية، فلتَخترْ لي مِن نساء أصهارك بني تميم، مَن تراها صالِحةً، وأنا راضٍ عما تفعل، فقال شريح: لئن كان في بني تميم مَن تكون فارِغة وتَصلح، فأنت مِن المحظوظين، وعلى الله التُّكلان، ومنه التوفيق، قال الشعبي: كلامك يُنبئ عن حظوتك بزوجتك التميميَّة! قال: هو ذاك، ولكن لا أُخفي عنك، أني ندمتُ حين صارَتْ في حبالي؛ لأني تعجَّلت، وذكرتُ كبرياء نساء بني تميم، وراودَتْني نفسي أن أُطلِّقها، ثم اعتزمت الدخول بها، فإن رأيت حسنًا وعَلِمتُ ما أحبُّ، أمسكتُها، وإلا فارَقتُها، وقد كان ندمي في غير محلِّه، فلو رأيتَني يا شعبي، وقد أقبلتْ نساء بني تميم يحطْنَ بها حتى أَدخلْنها عليَّ، لرأيت ما يسرُّ الخاطِر، ثم قمتُ – عملاً بالسنَّة – فتوضَّأت وصلَّيتُ ركعتَين، فقامت هي الأخرى فتوضَّأت وصلتْ ركعتَين، ثم أقبلتْ جواريها فأخذْن ثيابي وألبسْنَني ملحفَةً قد صُبغتْ بالزعفران، فلما خلَونا مددتُ يدي إليها، فقالت: على رسلك، وكان مما قالت: إني امرأة غريبة عنك، لا عِلم لي بأخلاقِك، فبيِّن لي ما تحب فآتيه، وما تكره فأجتنِبه، فإنه كان لك في قومك مَن تتزوَّجها، وكان لي مَن أتزوجه من قومي، ولكنْ إذا قضى الله أمرًا كان مفعولاً، فاصنع ما أمرَك الله به، إما إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، وقد أحوجَتْني بذلك – يا شعبي – إلى القول، فقلت: إنكِ قد قلتِ كلامًا إن ثبتِّ عليه، يكن ذلك حظًّا لي، وإن تَدَعيه يكن حجَّةً عليك، أحبُّ كذا، وأكره كذا، وما رأيتِ مِن حسنة فاذْكُريها، وما رأيتِ من سيئة فاستُريها، قال: كيف محبَّتك لزيارة أصهارك؟ قلت: ما شاؤوا، وما أحب أن يَملَّني أصهاري، قالت: فمَن تحبُّ مِن جيرانك ومَن تكره؟ قلت: قوم فلان صالِحون، وبنو فلان قوم سوء.
وكانت والله يا شعبي أنعم ليلة بتُّها، وأعجب مِن ذلك أن أمَّها لم تَزرْنا إلا على رأس الحول؛ حيث جئتُ من مجلس القضاء، ودخلتُ الدار، فإذا أنا بعجوز تأمُر وتنهى، فسلَّمتُ، فردَّت السلام، ثم أقبلتْ فقالت: كيف رأيتَ زوجتك؟ قلت: خير زوجة، وأوفَق قرينَة، لقد أدَّبتِ فأحسنْتِ؛ فجزاك الله خيرًا، ثم اسمَع يا شعبيُّ وصيَّتها لي: قالت: يا أبا أمية، إن المرأة لا يُرى أسوأ حالاً منها إلا في حالتَين: إذا ولدت غلامًا، أو حظيتْ عند زوجِها، فإن رابَك مريبٌ، فعليك بالسَّوط؛ فوالله ما حاز الرجال في بيوتهم أشرَّ من الروعاء المُدلَّلة، وكانت تأتيني على رأس كل حول وتوصيني بهذه الوصية.
قال الشعبي: وأنَّى يكون لي بمثل هذه؟ إنها مِن النادِرات! قال شريح: خارَ الله لك، ووفَّقك إلى مثلها إن شاء الله تعالى.