الأشخاص المثيرون للجدل، تكون حياتهم ـ عادة ـ أكثر خصوبة من غيرهم، الناس من حولهم يُبهَرون، ثم يَحْسُدون، ثم يَبْهَتُون، ثم ينهزمون.
أما هم فيكونون أمام (حقيقة الحياة والموت) مباشرة، فهم لا يتناسونها، ولا ينشغلون بفلسفتها، ولكنهم يعملون في إطارها بكل وضوح وشجاعة.
فالحياة ـ في عرفهم ـ ظرف إنجاز، والموت حدٌّ لابد من بلوغه، ومن هنا يتحول الموت إلى حافز زمني ليس له منافس.
أمامي قائمة تبدأ على الورق، وتنتهي في ذروة سحابة، بل تتسلقها لتصل إلى شعاع يتراقص بين هالات الثريا في السماء، وكلها مُحمَّدةٌ مُعَبَّدة، ولكني آثرت أن أنتحي جانبا لأجلب حكمة من حياة رجل، أصبحنا نتعامل مع منتجات شركته أكثر من تعاملنا مع أي منتج آخر، حيث أحدث تغييرا هائلا في علاقتنا (بالتقانة)، فلم تعد مجرد حاسوب مترهل على مكاتب المؤسسات، بل أصبح عالما كاملا في جيوبنا، ولعبة معشوقة في أيدي أطفالنا.
(ستيف جوبز) الذي انقسم العالم تجاهه ـ كالعادة مع العباقرة ـ بين تقديره بوصفه العقل المبدع وراء أجهزة التواصل الذكية، ورجل الأعمال المغامر الذي لا يمكن قياس أثره في عالم اليوم. وبين كونه وثنا مزيفا، ورمزا لكل خطأ، وتاجرا مبالغا في إخفاء نياته.
لكنه ـ في النهاية ـ طفل متبنى من قبل (بول وكلارا جوبز)، لم يكمل الجامعة، بدأ حياته العملية بوظيفة في شركة مبتدئة في ألعاب الفيديو، بعدها التقى شركاء، كون معهم شركة (أبل) سنة 1976م، وبعد سنة تم إنتاج أول جهاز ذكي.
وقد ذكر جوبز ـ وصدق ـ أنه “كان محظوظا جدا، فقد وجد ما أغرم بعمله في وقت مبكر من العمر” فمن يعمل فيما يحب ويتقن، فقد استكمل جانبي الإبداع والسعادة العملية.
حين يتحدث عن طفولته، يتحدث عن الجو النقي، والفردوس الطبيعي الذي كان يعيش فيه، وعن فرص “الاستكشاف والتعلم؛ لفهم الظواهر بالغة التعقيد داخل بيئته” حتى رأى أنه “محظوظ جدا في طفولته”.
وتلكما قاعدتا النشأة المبدعة، بيئة طبيعية ملهمة، وأجواء طليقة للتفكير الحر.
حين أتم مع فريق العمل صناعة (حاسوب ماكنتوش المكتبي)، وتم عرضه على حملة الأسهم، صفقوا لمدة خمس دقائق، فأجهش الفريق بالبكاء، “وكأنهم لم يكونوا يصدِّقون بأنهم استكملوا صنعه بالفعل”.
متعة المبدع ليس في الثمن المادي لإبداعه؛ لأنه يعلم بأنه سيبلى، بل غاية متعته في المنتج الذي سيخلده.
ومن طبيعة المبدع أن يردد مع جوبز: “لنتوقف عن النظر إلى الأمس، فالمسألة الحاسمة تتعلق بما يحدث في الغد”؛ ولذلك فإنه لا يترك لنفسه فرصة للاستمتاع بإبداعه سوى برهة من الزمن لا تطول، لكونه يتيقن أن هناك ما هو أكثر إبهارا من ذلك الذي انتهى من صنعه أو إنتاجه.
كانت رؤيته تتمثل في النجاح في: “صنع منتج على أعلى درجات الجودة، وبالطريقة الصحيحة للمرة الأولى”، وهي رؤية لا تقف عند حدود (إدارة الجودة) كما قد يبدو من تماهي هذا القول مع تعريفها عند مؤسسي نظريتها، بل يتجاوز ذلك إلى طموحه المجنون بأن يوفر لمريديه ما لم يفكروا فيه بعد، فيقول: “لا يمكنك الاكتفاء بسؤال زبائنك ماذا يريدون، ثم محاولة تقديمه لهم. فبحلول الوقت الذي تنهي صنعه يريدون شيئا جديدا” إذن فلابد من توفير ما تسبقهم إلى التفكير فيه. إنه الخيال الخلاق، لا ذلك الخيال الفقير الذي يدفع الفنان إلى معايشة التجربة قبل نقلها إلى فنه، كما يقول (بيير لويس).
(كارلوس منعم) بطل (نيسان) وعدد من المبدعين يرون أن الوصول إلى (البساطة) بمعناها المتداول، هو الإبداع، ولن يكون ذلك ـ كما يقول جوبز ـ إلا “أن تكد وتتعب؛ لتقدح ذهنك وتجعل ابتكارك بسيطا، لكنه يستحق العناء في النهاية؛ لأنك حين تنجح تستطيع تحريك الجبال”.
الكلمة التي قالها (أرخميدس): “”أعطِني مكانا لوَقْف وإراحة عتلتِي على الأرض، وأنا أستطيع أَنْ أُحرّكَ الأرضَ.”
وقالها الإمام ابن القيم رحمه الله: “لو أن رجلاً وقف أمام جبل وعزم على إزالته، لأزاله”.