الأحد 22 ديسمبر 2024 / 21-جمادى الآخرة-1446

حينَ تُستثمَرُ الفرحةُ



بسم الله الرحمن الرحيم

قبلَ بدءِ العامِ الدِّراسيِّ، ذهبنا إلى السُّوقِ لإحضارِ ما يحتاجُه الأبناءُ والبناتُ من لوازمِ الدِّراسةِ، وذلك استعدادًا لبدءِ عامٍ دراسيٍّ جديدٍ.

عُدنا والجميعُ مُحمَّلٌ بما يحتاجُه من ملابسَ، وحقائبَ، ودفاترَ، وأقلامٍ، وغيرِ ذلك من مُستلزَماتٍ، ودخلنا المنزلَ، فاجتمع الجميعُ على ما تم إحضاره، وتوزعوا ما يلزمه التوزيع، وبعدَها أخذ كل واحد من البنين والبنات يُجهِّز لوازمَه، والفرحةُ تغمرُهم والسَّعادةُ تملأُ أركانَ البيتِ.
بل إنَّ بعضَ الصِّغارِ أخذ في لُبسِ ثيابِ المدرسةِ، وحملَ الحقيبةَ وهو فخورٌ بذلك مُبتهِجٌ بما يصنعُ، يتجوّلُ بها في المنزلِ يعرضُها للكبيرِ ويتعاظمُ بها على الصَّغيرِ، في براءةٍ ظاهرةٍ، ونشوةٍ حاضرةٍ.
وأكثرُهم سرورًا وحبورًا مَن سيدخلُ المدرسةَ حديثًا، فهم فِرحُون مُغتبِطُون، تجدُهم يَعرِضون ما معَهم على الجميعِ بفرحٍ وسرورٍ، بل إنَّ بعضَهم قد ينامُ ولوازمُ الدِّراسةِ عندَ رأسِه، ومنهم مَن يُحدِّثُ نفسَه بحُلُمِ الدِّراسةِ ومقاعدِها، وهنا تكثرُ الأسئلةُ، وأَهمُّها: متى أذهبُ إلى المدرسةِ؟

وفي هذه الأثناءِ، تَأمَّلتُ هذه المواقفَ، وقلتُ في نفسي:
هل المُعلِّمون والمُعلِّماتُ يستشعرون مثلَ هذه الفرحةِ؟!
وهل يمكنُ لهم أن يستثمروها؟!

أيُّها المُعلِّمُ الفاضلُ، أيَّتُها المُعلِّمةُ الفاضلةُ: أنتم بحقٍّ مَن يَستحِقُّ التَّكريمَ والإجلالَ، والتَّوقيرَ والاحترامَ، كيف لا؟ وأنتم تقومون بأشرفِ رسالةٍ، وأعظمِ مهمّةٍ، إنَّها مهمّةُ الرُّسُلِ الكرامِ – عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ -؛ فأنتم مَن يبنى العقولَ، ويُهذِّبُ السُّلوكَ، ويقضي الأوقاتَ الطِّوالَ لصناعةِ الأجيالِ؛ فلكم منَّا الدُّعاءُ الوافرُ بأن يُجزِلَ اللهُ مثوبتَكم، ويُعلِيَ في العالَمين ذكرَكم.
في أوَّلِ أيَّامِ الدِّراسةِ، ينطلقُ الجميعُ لمحاضنِ التَّربيةِ والتَّعليمِ، في وقتٍ واحدٍ، يجتمعُ الجميعُ بداخلِ صرحٍ تعليميٍّ عملاقٍ، الجميعُ ينظرُ إليه بأنَّه مَجمَعُ العلمِ والقيمِ، والمُثُلِ والآدابِ؛ فالرَّذائلُ والنَّقائصُ مُحرَّمٌ عليها الدُّخولُ، وإن تَسلَّلت لواذًا كان علاجُها النَّاجعُ الطَّردَ والإبعادَ.
وفي هذا اليومِ، يدخلُ جميعُ الطُّلَّابِ والطَّالباتِ، وفرحةُ الدُّخولِ تغمرُهم معَ رهبةِ وهيبةِ اللِّقاءِ، فهي فرحةٌ ممزوجةٌ برهبةٍ وهيبةٍ، لكنْ سرعانَ ما تزولُ تلك الرَّهبةُ، وتنضبطُ تلك الهيبةُ، وذلك حينما يرى الجميعُ مُحيَّا ذلك المُعلِّمِ والمُعلِّمةِ بسَّامًا، والرَّحمةُ والشَّفقةُ على وجهِهم ظاهرةٌ، ومحبّةُ الخيرِ مِن تَصرُّفاتِهم باديةٌ.

آهٍ .. ما أجملَ تلك الابتسامةَ مِن مُعلِّمِينا يومَ كُنَّا في سنِّ الطَّلبِ! هي ابتسامةٌ غيرُ مُتكلَّفةٍ، لكنَّها بَنَتْ في النُّفوسِ أواصرَ العلاقةِ والمحبّةِ، وشحذتِ الهمّةَ في الرَّغبةِ للتَّعلمِ والدِّراسةِ.
أخي المُعلِّمَ، أختي المُعلِّمةَ:
لا تحتقروا ابتسامةَ اللِّقاءِ؛ فهي بلسمُ التَّواصلِ معَ طُلَّابِكم وطالباتِكم، ومعَ هذه الابتسامةِ ليكنِ التَّفاؤلُ شعارَكم، والدَّعوةُ الصَّادقةُ خِطابَكم، واللَّمسةُ الحانيةُ هي طريقَكم للقلوبِ.
انظروا إلى أبنائِكم وبناتِكم بعينِ الرَّحمةِ والشَّفقةِ، وحبِّ الخيرِ لهم، بعيدًا عن نظرةِ الفوقيّةِ، والوظيفةِ الرَّسميّةِ، والأنظمةِ الوضعيّةِ.
أخي المُعلِّمَ، أختي المُعلِّمةَ:
أبناؤُكم وبناتُكم ليسوا بحاجةٍ للتَّعنيفِ والتَّرهيبِ؛ فقلوبُهم لم تجتمعْ على التَّدبيرِ والتَّخطيطِ، ولم تعرفْ نفوسُهم الحقدَ والغِلَّ، بل هم بسطاءُ في الغالبِ، حركاتُهم ببراءةٍ، وكلامُهم ببساطةٍ، يحملُهم على ذلك حبُّ المرحِ، وأحيانًا كثيرةً لا يستشعرون المواقفَ والأقوالَ، فنصيحتي: أن لا يَحمِلَكم قولُ بعضِهم أو تَصرُّفُ أحدِهم على الإغلاظِ في القولِ، أو التَّعنيفِ في الخطابِ؛ فما هم إلَّا عجائنُ في أيديكم، أنتم بُناتُها وصُنَّاعُها، فلا يَحمِلنَّكم موقفٌ من المواقفِ على هدمِ البناءِ، وتقويضِ ما شُيِّد منه، فتُحرَقَ البسمةُ، وتذهبَ الفرحةُ، وتنقطعَ بعدَ ذلك أواصرُ المحبّةِ والإجلالِ، فيقلَّ حصولُ الفائدةِ والاستفادةِ بعدَ ذلك أو تنعدم!

أيُّها المُعلِّمُ ، أيَّتُها المُعلِّمةُ:
كُلُّ شيءٍ قد ينساه المُتعلِّمُ ممَّن علَّمه إلَّا الكلمةَ الجارحةَ؛ فهي تَخُدُّ أُخدودًا في الفؤادِ، قد لا يكونُ الزَّمانُ كفيلًا بدفنِه، فكم من كلمةٍ جرحت، وعبارةٍ قتلت، ولفظةٍ أَفسَدت؛ قد ينساها القائلُ ولكنَّها تبقى في نفس سامعها حارة حاضرة، فهي محفورةٌ في نفسِ سامعِها كالجرحِ المستديمِ!

أيُّها المُعلِّمُ ، أيَّتُها المُعلِّمةُ:
إنَّ زرعَ الهيبةِ في نفوسِ الطُّلَّابِ والطَّالباتِ لا يكونُ بالغلظةِ والشِّدَّةِ، بل بالرَّحمةِ والرَّأفةِ، والتَّمكُّنِ من المادَّةِ العلميَّةِ، وبذلِ الوسعِ في إيصالِها، هذه هي الَّتي تبني الهيبةَ والوقارَ في قلوبِ الأبناءِ والبناتِ، لا كما يظنُّ البعضُ أنَّ القسوةَ والشِّدَّةَ، والعقابَ والتَّأنيبَ هي أقصرُ طريقٍ لبناءِ الهيبةِ وحفظِ المكانةِ!
صحيحٌ قد تكونُ في نظرِ المُعلِّمِ والمُعلِّمةِ لها أثرٌ في ضبطِ المُتعلِّمِ، لكنَّه ضبطٌ وقتيٌّ، واحترامٌ لحظيٌّ، سريعُ الزَّوالِ، وهذه مزلّةُ قدمٍ أربأُ بكم أن تكونوا من أهلِها.

أيُّها المُعلِّمُ ، أيَّتُها المُعلِّمةُ:
قد يصدرُ مِن بعضِ المُتعلِّمِينَ مُخالَفاتٌ أو سلوكيّاتٌ لا تليقُ في قاعةِ التَّعلُّمِ، ممَّا يضرُّ بسيرِ الدَّرسِ، ويُشوِّشُ على المُتعلِّمِينَ؛ فهنا لا يَحمِلنَّكم حرصُكم على إتمامِ الدَّرسِ وإنهاءِ العرضِ على استخدامِ أسلوبٍ معَ المُخالِفِ قد يكونُ ضررُه أكبرَ من نفعِه، إنَّنا هنا بحاجةٍ معَ التَّعليمِ إلى التَّربيةِ والتَّوجيهِ، فقد يكونُ المُتعلِّمُ المُخالِفُ بحاجةٍ للتَّربيةِ والتَّوجيهِ أكثرَ من حاجتِه للمادَّةِ العلميَّةِ الَّتي تُطرَحُ عليه.
ومِن العلاجِ النَّافعِ النَّاجعِ: النُّصحُ الفرديُّ، والجلسةُ التَّربويَّةُ معَ مَن ظهرت منه المُخالَفةُ، أو ذلك السُّلوكُ الشَّائنُ؛ فإنَّه من أفضلِ أنواعِ العلاجِ؛ فالنُّصحُ في العلنِ نوعٌ من التَّوبيخِ، والنُّصحُ في السِّرِّ هو العلاجُ والتَّوجيهُ.

وصدق القائلُ:
تَعمَّدْني بنُصحِكَ في انفرادِي … وجَنِّبنِي النَّصيحةَ في الجماعَهْ
فإنَّ النُّصحَ بينَ النَّاسِ نوعٌ … مِن التَّوبيخِ لا أَرضَى استِماعَهْ
وإنْ خَالَفْتنِي وعَصيتَ قولي … فلا تَجزَعْ إذا لم تُعْطَ طاعَهْ

فيا أيُّها المُعلِّمُ الجليلُ، ويا أيَّتُها المُعلِّمةُ الفاضلةُ: لا تكونوا سببًا لحرقِ تلك الفرحةِ، وقتلِ تلك البسمةِ، بل استغِلُّوها واستثمِرُوها؛ فكم من طالبٍ وطالبةٍ كان أعظمُ أسبابِ نجاحِه هو استثمارَ مُعلِّمِه أو مُعلِّمتِه لطاقتِه وإمكاناتِه، فوُظِّفتِ التَّوظيفَ الصَّحيحَ، فكان لذلك الأثرُ البالغُ والنَّجاحُ الباهرُ لذلك الطَّالبِ أو الطَّالبةِ.

وأخيرًا:
إنَّ الحِملَ عظيمٌ، والأمانةَ جليلةٌ، فمَنِ استشعرها بحقٍّ وحملها بصدقٍ كان ناجيًا، ومَن قصَّر فيها كان -والعياذُ باللهِ- خائنًا، أعاذني اللهُ وإيَّاكم مِن الخيانةِ.

أسألُ اللهَ أن يجعلَنا من أهلِ البرِّ والإحسانِ، والصِّدقِ وحُسنِ البيانِ، وأن يجعلَنا هُداةً مُهتدِينَ غيرَ ضالِّينَ ولا مُضِلِّينَ.

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم