حتّى لا تصبح خير أمّة آخر أمّة! عليك بالتقنيات الحديثة.
د. علي الحمادي .
إنّ بناء أية حضارة وبلوغ أي رقي لا يأتي من فراغ ولا يكون بغير ثمن, كما إن الأمة التي لا تفكر بأن تصنع لنفسها مجداً ومكانة بين الأمم قد حكمت على نفسها بالضياع والتيه والعبودية والذلة للآخرين.
عزيزي القارئ :
مضينا في الجزء الأوّل من هذه المقالة مع الدكتور علي الحمّادي مع أمثلةٍ ومعايير تشخّص إلى “أين تقف اليوم وإلى أين تتجه خير أمة؟” ثمّ بدأنا بتناول الأسباب المادية والمعنوية لتخلّف مسلمي اليوم علمياً وتقنياً. تحدثننا عن عاملين هما تمزّق العالم الإسلامي، وتفشّي الأمية، ونتابع الآن مع:
الأسباب المادية لتخلف مسلمي اليوم علمياً وتقنياً :
3- إهمال دراسات العلوم والتقنية في العالم الإسلامي المعاصر:
حيث في كثير من دول العالم الإسلامي المعاصر أهملت الدراسات العلمية والتقنية بصفة عامة؛ إما بسبب كثرة ما تحتاجه من تجهيزات ومختبرات وأجهزة ومعدات, وما وصلت إليه تكلفة ذلك في هذه الأيام من مبالغات, أو بسبب انطلاق البحث العلمي عند غير المسلمين من منطلقات مادية بحتة تنكر أو تتجاهل كل ما وراء المادة, بينما الإيمان بالغيب يشكل لب العقيدة الإسلامية, أو للسببين معاً. وبإهمال هذه الدراسات ندرت الخبرات العلمية والتقنية في العالم الإسلامي المعاصر, وبندرتها تخلفت أمتنا عن ركب التطور العلمي والتقني.
وتبلغ نسبة العلماء والتقنيين إلى مجموع تعداد السكان في الدول الإسلامية رقماً لا يذكر إذا قورن بنسبتهم في دول التقدم العلمي والتقني, إذ تتراوح بين عشرين في المليون في بنجلادش, ومائة وتسعين في المليون في مصر, بينما تتراوح عند غير المسلمين بين (4300) في المليون في الولايات المتحدة وأوربا الغربية, و(8200) في المليون في الكتلة الشرقية المكونة من الاتحاد السوفييتي ( سابقاً ) وأوربا الشرقية والصين, ويبلغ متوسط تلك النسبة في الدول النامية بصفة عامة حوالي مئة في المليون.
وفي الوقت الذي تنفق فيه الدول الكبرى ما بين (2%) و(4%) من إجماليّ ناتجها القومي على عمليات توظيف البحث العلمي من أجل التنمية, فإننا نجد إنفاق الدول الإسلامية ( في زمرة الدول النامية) لا يتعدى (0.3%) على ضخامة الدخول القومية في الدول الكبرى وضآلتها في الدول النامية, وعلى ذلك فإن مجموع إنفاق الدول النامية لا يمثل أكثر من (1.6%) من مجموع إنفاق دول العالم على عمليات البحث العلمي وتوظيفه في تطوير التقنية.
4- قيام مختلف المؤسسات العلمية والتقنية الحديثة في دول العالم الإسلامي على أنماط مستوردة:
لا تنبع من عقيدتها وتراثها, ولا من حاجات أفرادها ومجتمعاتها, مما أدى إلى غرابة هذه المؤسسات في بيئاتها, وغرابة خريجيها, وإلى العديد من الحواجز الاجتماعية التي حالت بين هذه المؤسسات وبين تحديد أهداف واضحة لها, وخطط محددة لعملها, كما حالت دون قيام خريجيها بواجباتهم كاملة في مجتمعاتهم.
فعلى الرغم من بلوغ الجامعات في دول العالم الإسلامي المعاصر أكثر من( 224) جامعة, بالإضافة إلى ( 335) معهداً علمياً عالياً, وحوالي (900) من مراكز البحوث, إلا ـأن هذه جميعها مع هيئات تدريسها وخريجيها لم تتمكن بعد من تحقيق نهضة علمية وتقنية حقيقية تعين على جبر الهوة الكبيرة بيننا وبين الدول المتقدمة في ذلك.
6- انعدام التخطيط والتنسيق والتعاون بين مختلف المؤسسات العلمية والتقنية في العالم الإسلامي المعاصر:
مما أدى إلى تفتيت الجهود , وتكرارها في خطوط قصيرة متوازية في وقت ندرك فيه أن عوامل تفوق الولايات المتحدة الأمريكية هو اتحادها, وتحركها كتجمع بشري هائل, فوق مساحات أرضية شاسعة, بتخطيط واحد, وهدف محدد.
للمشتغلين بالبحث العلمي والتقني في مختلف دول العالم الإسلامي المعاصر, مما صرف الناس عن هذه التخصصات, وأدى إلى هجرة كثير من العلميين لمراكزهم واتجاههم إلى النشاطات المالية والإدارية.
8- عدم توفر وسائل البحث العلمي والتقني من الأجهزة والمواد والمعدات والقوى الفنية المساندة, والخدمات المكتبية والتوثيقية المتطورة:
وذلك في كثير من دول العالم الإسلامي المعاصر, مما أدى إلى هجرة أعداد كبيرة من العلماء والفنيين إلى خارج حدود العالم الإسلامي, وهذا في حد ذاته يمثل استنزافاً لأهم طاقات المسلمين ولأعظم إمكاناتهم.
9- اعتماد الجامعات والمعاهد الفنية ومراكز البحوث في كثير من دول العالم الإسلامي المعاصر على أعداد كبيرة من الأساتذة والفنيين غير المسلمين: الذين يفتقرون – في غالب الأحيان- إلى الإخلاص المطلوب.
10- عملية تمييز غير المسلمين في جامعات ومعاهد ومراكز بحوث بعض الدول الإسلامي المعاصر:
تمييزاً يفقد المسلمين حماسهم, ويطفئ جذوة الشعور بالأخوة الإسلامية والمصير الواحد.
11- تسليم المراكز القيادية في عدد كبير من جامعات العالم الإسلامي ومعاهده ومراكز بحوثه إلى أقل الناس تأهلاً لحمل أمانة المسؤولية والقيام بتبعاتها: وذلك انطلاقاً من العصبيات الضيقة, أو التكتلات الحزبية أو المذهبية الجاهلة.
12- اعتماد الدول الإسلامية على الاستيراد من الدول الأخرى: بدلاً من التكامل ألاقتصادي والصناعي والزراعي فيما بينها مما أدى إلى خنق كثير من النشاطات الصناعية والزراعية في العالم الإسلامي , وإلى استنزاف أموال المسلمين, واستغلالهم, وفرض السيطرة عليهم من قبل الدول الموردة.
الأسباب المعنوية لتخلف مسلمي اليوم علمياً وتقنياً :
1- غياب التطبيق الصحيح للإسلام نظاماً شاملاً للحياة: وقد أفقد هذا الغياب المجتمعات الإسلامية دورها القيادي الذي يفرض عليها ضرورة السبق في كل اتجاه نافع- ومنها العلوم والتقنية – وأدى إلى تخلفها ثم إلى تفتيتها وتشتيت إمكاناتها.
2- غياب الفهم الصحيح لرسالة الإنسان: في هذه الحياة عند الكثيرين ممن يملكون تسيير دفة الأمور اليوم في العالم الإسلامي.
3- غياب الشعور بالمعنى الحقيقي للأخوة الإسلامية وواجباتها: وفي غيابه برزت مختلف النعرات العرقية والعصبيات الإقليمية والسياسية الضيقة التي ساعدت على تفتيت الأمة الإسلامية وتشتيت مختلف طاقاتها.
4- الصراع الشديد بين دعاة التغريب ( وأغلبهم ممن يرعاهم ويمدهم أعداء الإسلام في العالم الإسلامي المعاصر) ودعاة التأصيل ( وهم كثرة ينقصها السلطان: مما أفقد مراكز الإعلام بصفة عامة ومراكز العلم ومعاهده- في أغلب الأحيان – وحدة الهدف والغاية والوسيلة.
5- الشعور الداخلي عند الكثير من المسلمين المعاصرين (قيادة وأفراد) بالانهزام والتخلف والضعف: أمام التكتلات العالمية الكبرى, وبالعجز عن مسايرة تقدمها العلمي والتقني والإداري إلا بمساعدة هذه التكتلات, وعن طريق الاستجداء منها.
6- الهوة السحيقة التي تفصل قلة من المثقفين عن السواد الأعظم من الأميين وأشباه المتعلمين: وما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من تثبيط للهمم, وإعاقة لعجلة التقدم, وتصدع في جسد الأمة, خاصة وأن كثيرين من هذه القلة المثقفة لا يرون أن من الواجب عليهم العمل على إخراج ذلك السواد الأعظم من أميته.
7- غياب البيئة الصالحة للتقدم العلمي والتقني: في ظل الاستبداد السياسي الذي يسود معظم دول العالم الإسلامي اليوم, تلك البيئة التي توفر حرية الفرد, وتصون كرامة الإنسان, وتفرض حب العلم, وتحث على الاستزادة من المعرفة, وتكرم العلماء, وتبجل رسالتهم, وتعمل على توفير أسباب العيش الكريم لهم, وتقاوم الجهل وتسعى جاهدة للقضاء عليه.
نعم إن صناع التأثير هم الذين لا يشغلون أنفسهم بتوافه الأمور, وإنما يشتغلون فيما حسن من الأقوال والأفعال, فالله تبارك وتعالى يقول (إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً)
ويقول ابن الوردي:
قيمة الإنسان ما يحسنه أكثر الإنسان منه أو أقل
وقال ابن هانئ:
ولم أجد الإنسان إلا ابن سعيه فمن كان أسعى كان بالمجد أجدرا
وبالهمة العلياء يرقى إلى العلى فمن كان أرقى همة كان أظهرا
فقال المأمون لمن حوله: أعطوه مائة درهم واجلدوه عليها مائة جلدة! فقال الرجل منزعجاً: لِمَ يا أمير المؤمنين؟!! فأجابه المأمون قائلاً : لأنك تعلمت علماً تافهاً لا ينفعك ولا ينفع سواك, وأضعت وقتك في غير طائل!!
كل بمسعاه يفوز ومن ينب عنه الحوادث لم يفز بمراد
_________________
المصدر :مجلة عالم الإبداع .