الجمعة 20 سبتمبر 2024 / 17-ربيع الأول-1446

ثقافة الحب



الحب غريزة يحس بها الإنسان، فيمارسها في لذة وعذاب وقد تتعدى هذه الغريزة إلى الحيوان والنبات، كما أورد ذلك راجي عنايت. إذن الإنسان هو المرشح الأول لحمل هذه الغريزة وحمل تبعاتها اللذيذة والمؤلمة. ولقد اجتهد الأدباء والشعراء والفلاسفة والحكماء في تعريف هذه الكلمة التي لا تتعدى حرفين (ح . ب)، ولقد وجدت للأصمعي طرفة أوردها د/ محمد حسن عبدالله في كتابه: الحب في التراث العربي.


قال الدكتور محمد: قال الأصمعي: سَأَلتُ أعرابية عن العشق فقالتْ: جل والله عن أن يُرى الصدور، وخَفِىَ عن أبصار الورى، فهو في الصدور كامن ككمون النار في الحجر، إن قدحتَهُ أورى، وإن تركتَهُ توارى. ويُعقِّب عليها بقوله: وهذه العبارة على إيجازها وبساطتها يمكن أن تعطي بالتأمل دلالات عميقة، لعل هذه الأعرابية المجهولة لم تقصد إليها قصداً، ولكن إدراكها الباطن قد انطوى عليها بوعي أو بغير وعي، فتأمل مثلاً وصف العشق بالجلالة التي تعطي إحساساً بالضخامة، ثم الوصف بما يناقض ذلك فهو لا يُرى لجلاله لا لهوانه، ومن هنا كان تقديم القَسَم بالله أمام موضوع يسبق إلى الخاطر أنه على تنافر معه، ووصفه بالخفاء مع قيامه في الصدور وتقريب هذا الوصف المتناقض ظاهرياً بالنار الكامنة في الحَجَر وهو تشبيه فلسفي في صميمه، قال به المتكلمون والفلاسفة توضيحاً لعلاقة الروح بالجسد وتأمل الصلة بين الإنسان والحجر، وكلاهما من طين، وصلة العشق بالنار وهو نور ودمار، وانظر كيف تتولد المادة اللطيفة المضيئة من المادة الثقيلة المعتمة، وكيف يتم ذلك بطرف آخر هو حَجَر أو ما يشبهه، فبارتطام الجسمين تتولد الشرارة المضيئة المحرقة ولو تُركا دون صدام لما زادا عن حجرين!!  ومن نظر في طوق الحمامة لابن حزم سيرى أن انقسام النفوس وبحث كل نصف عما يكمله وإذا وجده التصق به حباً، أما فرويد فإن له رأياً آخر ملخصه: إن موضوع الحب البشري أي عندما يحب فلان فلاناً فإنه يقوم كبديل عن مثلٍ أعلى في نفوسنا لا نصل إليه، فنحن نحبه على أساس الكمال الذي كافحنا من أجل أن تصل إليه ذاتنا، والذي نود الآن أن نحققه بهذه الطريقة غير المباشرة كوسيلة لإرضاء نرجسيتنا وفرويد بهذا يذهب أبعد مما ذهب إليه ابن الجوزي، فليس الحب ميل النفس إلى ما يلائم طبعها فحسب، بل إلى ما تتطلع إليه أيضاً من الكمالات.
يقول ابن حزم: إن الحب أوله هزل وآخره جد، وهو لا يوصف بل [لا بد من معاناته حتى تعرفه] والدين لا ينكره، والشريعة لا تمنعه إذ القلوب بيد الله عز وجل. وإن أحمد شوقي أخذ تلك الجملة السابقة التي بين قوسين ووظفها في قصيدة طويلة نوعاً ما رقيقة الألفاظ والمعاني ومنها هذه الأبيات:
وما الحبُّ إلا طاعةٌ وتجاوزٌ وإن أكثروا أوصافَهُ والمعانيا
وما هو إلا العينُ بالعين تلتقي وإن نَوَّعوا أسبابَه والدواعيا
وعندي الهوى، موصوفُهُ لا صفاتُه إذا سألوني: ما الهوى؟ قلت: مابيا
فانظر عزيزي القارئ إلى الشطر الأخير من البيت الأخير، حيث اختصر لك الطريق، وأخرجك من معمة حالكة الدروب إلى معمة أشد حلكة وغموضاً ولكنه غموض لذيذ رغم ألمه. وقفتُ كثيراً أمام عبارات صاغها الدكتور مصطفى محمود في كتابه الروح والجسد مفادُها: إن اندماج اثنين في واحد هو أكبر الشواهد على عمق الحب والصحبة والمعاشرة وهي كذبة عظيمة وثمرة تطبيقها نكبة مؤكدة ليست في الحسبان. أولاً: لأن الاندماج مستحيل ولا يمكن لاثنين أن يصيرا واحداً إلا بمجموعة من الإجراءات التعسفية نهايتها المحتومة هي التعاسة. ولابد من احترام المسافة التي تحفظ لكل فردٍ مجالَه الخاص وكينونته الخاصة كإنسان مستقل له الحق أن يطوي ضلوعه على شيء. إذن وبعد هذه الضجة الكلامية ما هو الحب؟ إن لم يكن هو اندماج روحين ونفسين وقلبين؟!!.

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم