الخميس 19 سبتمبر 2024 / 16-ربيع الأول-1446

بين عامين



عام هجري مضى ومضت معه آلام حاضرة، وآمال غائبة، وأوضاع قاتمة، وأحزان ماضية، ونفوس بائسة، وقلوب يائسة! مضى العام وفيه قليل فرح وكثير ترح، لنستقبل عاما هجريا جديدا يحدوه اضطراب وقلق وخوف على أمة يمزقها الجهل والصراع، ودين تكاتف عليه الأعداء وانشغل عن نصرته بعض الأتباع.

في مثل هذا الجو الملبد بالغيوم، والذى سرى اليأس إلى عقول وقلوب بعض المسلمين، حتى حل القنوط محل اليقين! يأتي العام الهجري ليوقفنا أمام عدة حقائق:

الحقيقة الأولى: ليس العداء لهذا الدين أمرا مستغربا، وليس الكيد له أمرا مقلقا، فمنذ بزوغ فجر الإسلام وهو محارب، والمكر عليه من أعدائه أمر مشاهد، لكن ما يثبت أهل الإيمان أن مكر أعداء الله يقابله مكر الله، وهو أعظم من مكرهم وأشد {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}

لكنّا قد لا نرى من شدة الظلام بزوغ الفجر، ولا نقرأ في ظواهر الأحداث بواطن الأقدار.

هاجر النبي وأصحابه تاركا بلده وأهله متخفيا مطاردا، ليعود بعد عامين ورؤوس سبعين صنديدا من صناديد الكفر على رأسهم أبوجهل تتناثر على أرض بدر!!

الحقيقة الثانية: أحوال الأمة على ما فيها اليوم من تمزق وتشرذم هي خير بكثير من أزمنة ماضية، وقدراتها اليوم ومقدراتها أفضل كذلك مما كانت عليه ساعة الانتصار، وما حادثة دخول التتار إلى بغداد سنة ست وخمسين وستمائة للهجرة، وما فعلوه في المسلمين عنا ببعيد.

يقول ابن كثير في تاريخه: إن عدة من قتلوا في بغداد في ذلك الوقت نحو ثمانمائة ألف نسمة، ويذكر في رواية أخرى أنهم يزيدون على ألف ألف، أي على مليون.

قال: قتلوا حتى هربوا إلى بيوتهم، ثم دخلوا عليهم في بيوتهم حتى صعدوا إلى أسطح منازلهم، ثم قتلوا حتى صبت ميازيب بيوتهم من دمائهم، وبقوا أربعين يوماً يستحر فيهم القتل من أولئك التتار الكفرة الهمجيين”

لكن ماذا حدث بعد عامين فقط؟

يقول المؤرخون: ” في الخامس والعشرين من شهر رمضان، في يوم جمعة أغر للعام الثامن والخمسين وستمائة للهجرة كانت معركة عين جالوت، عندما عادت الأمة إلى ربها وتوحدت في بعض صفوفها، وأخلصت في كثير من المعاني لربها، جاءت عين جالوت لتكون نصراً عظيماً للإسلام والمسلمين، ودحراً وكسراً للتتار المعتدين، ثم بعد ذلك دخل التتار في دين الله أفواجاً وصاروا مسلمين.

الحقيقة الثالثة: التوكل على الله لا يعني التواكل وترك التخطيط.

قد كان النبي صلى الله عليه وسلم خير المتوكلين، وكان واثقاً بنصر الله له يعلم أنه جل شأنه كافيه وحسبه، ومع هذا كله أعد خطة محكمة وأشرف عليها وقام بتنفيذها،

فالمخطط: محمد، والمساعد له: أبو بكر، والتمويه على علي بن أبي طالب، والمدد الغذائي مناط بأسماء، والدليل الاستخباري يقوم به عبدالله، والتعمية والتغطية لعامر، والدليل على الطريق ابن أريقط، ومكان الاستراحة والاختباء: غار ثور، وموعد الانطلاق: بعد ثلاثة أيام، وخط السير: الطريق الساحلي. تلك كانت خطة من يفهم التوكل على الله حق توكله.

الحقيقة الرابعة: التضحية في سبيل الله دثار الأمم المنتصرة: من خلال حادثة الهجرة تتجلي معاني التضحية، يترك النبي بلده قائلا: (والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت)

ويقدم على بلد دونها وبها ابتلاء، ويشاركه في ذلك أصحابه بنفوس راضية وقلوب مطمئنة تقول عائشة رضي الله عنها: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، قدمها وهي أوبأ أرض الله في الحمى، وكان واديها يجري نجلاً يعني ماء آجناً فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم، وصرف الله ذلك عن نبيه، قال: فكان أبوبكر، وعامر بن فهيرة، وبلال في بيت واحد، فأصابتهم الحمى، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيادتهم فأذن، فدخلت إليهم أعودهم — وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب — وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك، فدنوت من أبي بكر فقلت: يا أبت كيف تجدك؟ فقال:

كل امرئ مصبح في أهله
والموت أدنى من شراك نعله

قالت: فقلت والله ما يدري أبي ما يقول: ثم دنوت من عامر بن فهيرة فقلت: كيف تجدك يا عامر؟ فقال:

لقد وجدت الموت قبل ذوقه
إن الجبان حتفه من فوقه
كل امرئ مجاهد بطوقه (أي:بطاقته).
كالثور يحمي جلده بروقه (أي: بقرنه)

قالت: فقلت: والله ما يدري عامر ما يقول. قالت: وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى اضطجع بفناء البيت ثم يرفع عقيرته ويقول:

ألا ليت شعري هل أبيت ليلة
بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أُرِدَن يوماً مياه مَجِنَـة
وهل يبدون لي شامة وطفيل

قالت: فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة، أو أشد، اللهم وصححها وبارك لنا في مدها وصاعها وانقل حماها واجعلها بالجحفة).

بهذه الثلاثة تنتصر الأمم، وتستعاد الأمجاد، وتسترد العزة: الأمل الذي لا يتعرف عليه اليأس، والتوكل الذي لا يعرفه التواكل، والتضحية التي لا حد لها ما دامت لله.

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم