ما معنى اليوم يمضي؟… وما معنى ترقب الغد!
معنى اليوم يمضي، أنّ لبنة من صرح الحياة قد انهارت. وأنّ ورقة من شجرة العمر قد سقطت. واليوم معناه إلى الأمس، كمعنى اليوم إلى الغد – أو بتعبير أوضح، فقد كنت إلى الأمس القريب أرى اليوم – الذي هو بالنسبة إليّ الأمس – غداً، صندوقاً من الأسرار، استحث دوران الفلك لاكتشافها وأرقب من انبلاج هذا الفجر، وكشف القناع عن هذه الأسرار، كلّ ما يرجوه الناس في المستقبل، من أمل زاهر، وسعادة سابغة.
فالغد كالسفينة العظيمة، التي تمخر عباب بحر زاخر الأمواج، ولكن ملاحيها مجهولون! فلا ندري أهم بشر يؤنسنا مرآهم، ويفرحنا مجيئهم. أم هم شياطين يزعجنا شكلهم، ويخيفنا منظرهم..
بل الغد كالشيخ المسن، أو الصبي اليافع، أو هو كالطيف الساري، يتراءى للناس عن بعد… وقد يكون ملكاً كريماً، ورسول سلام وهناء. أو شيطاناً رجيماً، هبط إلى الأرض من الجحيم، وفي يده خرطوم من جهنم كلّه شواظ وسعير – هذا الشيخ، أو الطيف قد أنفرد عن الناس، وعاف السكن إلّا في عالم مجهول، جلس في مكان نائي، والناس يرقبون حركاته.. ويستعجلون مجيئه، وهو ينحدر إليهم نحو الدنيا من عوالم الأحلام التي يضل فيها الخيال أو الدنيا تنحدر نحوه من عوالم الحقيقة الملموسة ثمّ هما ينحدران معاً نحو الأبدية أو نحو العدم والنسيان!.
مثل الغد كمثل فارس يرسله القدر إلى الناس وهو يمتطي متن جواد جموح يقطع طريقاً مرسوماً معلوماً، وهذا الطريق قد فرشه الناس بأنواع من الديباج والحرير وزينوها بالرجاء والأماني وهو يحمل حقيبة بين طياتها الأسرار الخفية تحوم حولها الأبصار ولكنها تغيب عن علم كلّ متهكن، وتغرب عن تفهمها العقول فإذا ما أنفرط من العمر يوم.. وأتى الغد فأصبح الزمن الراهن أنكشف القناع عن هذا السر في أوانه وانفتحت مغاليق هذه المعميات التي ظلت مبهمة على العقول فترة من الزمن!!.
أنّ المدارك البشرية لتطأطئ الرأس خشوعاً أمام هول الغد، ورهبة المستقبل وجلال غموضها… وكلّ إنسان في الحياة يتوق لمعرفة خبايا الغد ويود لو تمكن من حسر اللثام عنها قبل أوانها – ولكن من رحمة الله بالناس أن جعلهم يرجون بالمستقبل وهم آملون.. وإلا فكم تكون أثقال الحياة وكم يكون عدد الضحايا لولا فسحة الأمل أو بمعنى آخر – لولا الرجاء في الغد!.
ومن الناس منذ وجدت الدنيا من ينظرون إلى الحياة كأنّها وظيفة باردة وإلى الغد كأنّه كابوس مخيف – وهم في الحالين – ينظرون هذه النظرة من خلال منظار أسود يريدون أن يختصروا المرحلة فلا غد يرجى ولا حياة يريدونها ويحاولون أن يصلوا إلى العلة في كلّ شيء وإلى كشف القناع عن أسرار الطبيعة، وما وراء الحياة وهم متشككون في كلّ شيء تقف عقولهم مجهدة حيال كلّ هذه المعميات – وهؤلاء هم المتشائمون – وأكثرهم قد زج بهم علمهم الواسع وتفكيرهم العميق إلى التشاؤم والعبوس الدائم وهم يرون في الغد نذير الفناء، والعذاب المرير.
وهناك أيضاً من الناس المتفائلون يرون في الحياة جمالاً وفي ترقب الغد حلاوة الرجاء ويتحملون ألم الحاضر من أجل نعيم المستقبل المأمول. وهم يرون الحياة سهلة لا ألغاز فيها تشقى التفكير البشري فيستبدلون بوحشة العمر أنساً حلاوة التمني والاشتهاء ويتلمسون خلال أحداث الحياة مظاهر السلوى والعزاء. ويزهدون في البحث عن مصير العالم ومنتهاه، منصرفين إلى الاستمتاع بالحياة كيفما تكون منشرحة صدورهم، ومنبسطة قلوبهم للأمل المقبل والغد المرتجى!! بين الناس، وسكان المدن على الخصوص من أجل هذه الأسباب، كثرت بحوث المبعثين بخير المعمورة، وأهل العلم، ومحبو العمران، في الوسائل التي تكفل تناقص هذه الضوضاء أو أزالتها. وقد قرأنا أنّهم في إنجلترا يجربون الآن رصف، أو فرش بعض الشوارع بالكاوتشوك، والجلد المطاط، والاستعاضة بهما عن البلاط والإسفلت. وفي مصر يحاربون هذه الضوضاء بمنع الباعة المتجولين. إلّا – في أوقات مخصوصة – من المناداة على تجاراتهم. أي “بقطع الرزق”. وفي أمريكا يجتهد المهندسون في بناء بيوت من مواد. لا تسمح بدخول. أو تسرب الضوضاء إليها إذا أحكم قفلها. ويخترعون آلات. لا تحدث أصواتاً ولا ضوضاء. وفي ألمانيا استبدلوا الساعات الدقاقة بالساعات الصامتة. وهكذا…
فيا لهذه المدنية العجيبة. التي تأكل بنيها. وتفري أعصابهم، وتعرضهم لأخطار “النورستينا” وتفضي بهم إلى البله والجنون!.
كن متفائلاً فأنت نسيج أفكارك:
إنّه من قيثارة واحدة ينبعث ما يفرح وما يبكي. القيثارة لم تتغير بل يد العازف، ونظرتك إلى الحياة تخلق لك نوع الحياة، قد تحمل غصة في القلب، ولكن ابتسامة تفرضها على نفسك تجلو كلّ غمامة!.. الحياة جميلة والقبح فينا. الحياة بريئة والخطأ منا، الحياة سامية طاهرة والعلة فينا!…
ما أكثر المتشائمين في الحياة الذين لا يرون من الورود سوى أشواكها، ومن الأنوار سوى ظلالها! هم يعرضون عما في الحياة من أناشيد وأغاريد، ويعتقدون خطأ أنها سلسلة متصلة الحلقات من الأتراح والنواح!… فلا غرابة إن كان أمثال هؤلاء صورة ناطقة للبؤس واليأس. أما المؤمن الحقيقي فهو الذي يعرف أنّ الحياة مرادفة للابتهاج والابتسام والسرور، وهو دائماً يفرح… وما أحسن ما قاله لورد بيرون “إنّ المتفائل إنسان يرى ضوء غير موجود، والمتشائم أحمق يرى ضوء ولا يصدق”. نابليون عندما هُزم وأخذ إلى المنفى لم يكترث بالهزيمة أو يرهب المنفى بل قابل كلّ الكوارث بجرأة وابتسام وقال عبارته الخالدة إني سعيد أينما كنت. للمتشائم عينان لكنه يضع فوقهما منظاراً أسود قاتماً ويديم النظر إلى الجانب المظلم من الحياة ويغض الطرف عما في الحياة من بهجة وأفراح وجمال. فهو ينسى بهجة الربيع ليذكر برد الشتاء وحر الصيف، فإذا فكر في أي شيء نظر إليه من الناحية المظلمة ولا يدرك له أيّة غاية مشرقة. ليس المقصود بالتفاؤل أن تغمض العين عن الحقيقة والواقع، بل أن تعتاد في تفكيرك النظر إلى الأشياء في بهجة الأمل وإشراق الرجاء، لا في ظلام اليأس وحلكة القنوط. المتفائل هو الذي يعترف بالأشواك ولكنه يكثر التفرس في الورود. هو الذي يؤمن أنّ الحياة والبهجة متلازمان، وأنّ المصاعب عرض يزول، وغيم ينقشع، فلا معنى للحياة بدون الإشراق والابتسام. المتفائل يرى حسنات الحياة تشوبها بعض السيئات، أما المتشائم فيرى سيئات الحياة ممزوجة بقليل من الحسنات.
أيها الشاكي وما بك داء *** كيف تبدو إذا غدوت عليلاً
وترى الشوك في الورود وتعمى *** أن ترى فوقها الندى إكليلاً
أحكم الناس في الحياة أناس *** عللوها فأحسنوا التعليلا
فتمتع بالصبح ما دمت فيه *** لا تخف أن يزول حتى يزولا
وإذا ما ظل رأسك هم *** قصر البحث فيه كي لا يطولا
أيها ذا الشاكي وما بك داء *** كن جميلاً تر الوجود جميلاً
إنّ واجبك أيها القارئ أن تنظر دائماً إلى الوجه المنير فتستطيع أن تحوّل ظلام الحياة إلى ضياء وإشراق. شفى رجلان من مرض أصابهما، فسئلا عن صحتهما، فقال المتفائل: إني أحسن اليوم، وقال المتشائم: كنت أمس في حالة رديئة – سافر رجلان في البرية في يوم ممطر، فقال المتفائل: إنّ هذا المطر يلطف الجو ويخفف الغبار، وقال المتشائم: أنّه يوحل الطرق ويعطل الأعمال – قطف اثنان عنباً، فقال المتفائل: إني مسروراً لأني آكل عنباً حلواً، وقال المتشائم: إني غير مسرور لأنّ في العنب بذراً – زار ولدان خلية نحل، فأخذ أحدهما من عسلها وتذوقه ثمّ قال: ما أحلى العسل ودعا النحلة نحلة العسل، ومد الآخر يده فلسعته النحلة وصرخ وبكى ودعاها نحلة اللسع – تحدث اثنان عن الشمس، فقال المتفائل: ما أجمل الشمس فإنها تطهر الأثاث، وقال المتشائم: ما أردأ الشمس فأنها تتلف الأثاث. فمن أي صنف أنت أيها القارئ، هل أنت من النوع الذي يضع المنظار الأسود على عينيه فيتراءى له الوجود مظلماً قاتماً، أم أنت ممن يستعينون بالنظارات البيضاء فيرى كلّ شيء واضحاً جميلاً؟ فريق من الناس يرضى الحياة ويسعد بها لأنّه يسير فيها وهو يتطلع إليها بعين الرضى، وبالرغم من تقلبها وقسوتها فإنّه يراها جميلة مشرقة. في حين أنّ فريقاً آخر لا يرى في الحياة سوى المرارة والآلام والقبح والظلام، فيصرف العمر منتقداً متذمراً وتطويه الأيّام متبرماً متشائماً. ما أكثر ما ننتقد الأوضاع ونتمنى الانتحار والتخلص من الحياة، لقد قال أحد الحكماء: ما أعظم الفرق بين المتشائم والمتفائل! فإنك لو أعطيت كلا منهما حبلاً، لشنق الأوّل نفسه به، أما المتفائل فيحاول أن يصنع من الحبل قصراً شاهقاً! يكفي التفاؤل أنّه يبهج القلب، ويريح الأعصاب، ويطمئن البال، في حين أنّ التشاؤم يهيج الأفكار ويقض المضجع، ويجهم الوجه ويجعل النهار ليلاً والنور ظلاماً!.
من حكم “كاجاوا” الزعيم الياباني قوله: ليست الطبيعة جميلة في أعين الجميع. فالأزاهير الناضرة والورود الباسمة، في نظر الواجم المتشائم، تبكي وتنوح! أما المتفائل الطروب فإنّه يرى في الماء الآسن الراكد لوناً من الجمال ونبعاً للمتعة والسعادة. إنّ الطبيعة لا تفتح صدرها ولا تزيح الستار عما تنطوي عليه من روعة وإبداع، إلا لمن تطهرت قلوبهم من أدران الخوف والضعف والهم والقلق. فطيران الفراشة وتحول الشرنقة، واخضرار الشجر، وتفتح الزهر، وتغريد الطير. هذه كلّها لا يتذوقها ولا يستمتع بها إلا من عمرت قلوبهم بالثقة والإيمان والبشر.!
ولا ننسى أنّ للنظرات التي يتخذها الإنسان الأثر الكبير في اتجاهاته الفكرية الحيوية. وكما يقول الخبيرون أنّ الثروة الحقيقية هي شيء في الفكر ويتعلق بالموقف الداخلي بإزاء العالم الذي نعيش فيه! فيوجد من يملكون الثروات الكبيرة وهم يعتبرون في عداد التعساء البؤساء ويوجد من لا يملكون شيئاً من حطام العالم ولكنهم أغنياء بأفكارهم النقية ونفوسهم الراضية التقية وقد برهن هؤلاء على أنّهم أثرياء حقاً، فإنّ الثروة ليست مقدار ما نملك من مال بل بمقدار ما نستطيع أن نسر به ونستعمله ونستفيد منه لإلهامنا!.
روت لنا كتب الأساطير حكاية أميرة شوه قبح منظرها جمال الحياة عليها، فلم تشعر بالسعادة لتفكيرها دائماً أنّها ليست جميلة. قرأت في حلم أنّ ملاكاً جاء إليها وعلمها دروس ثلاثة:
أوّلاً: أن تبتسم للأشخاص الذين تصادفهم.
ثانياً: أن تتعود النظر إلى كلّ ما هو جميل في الحياة.
ثالثاً: أن تظهر الحنان لشتى أصناف الناس.
فألهمتها هذه الأمور الثلاثة وأشغلتها عن التفكير بقبح منظرها، وما أسرع أن تطلع إليها رعاياها كأجمل فتاة في البلاد، لأم طيبة قلبها وعذوبة نفسها غطت على دمامة شكلها ومنظرها وبهذا استطاعت أن تستمتع بسعادة الحياة. فأفكارنا! أفكارنا التي في داخلنا، إما أن تكون سبب بؤسنا وشقائنا، أو سبب سعادتنا وهنائنا.! فسلامة عقولنا واستمتاعنا بالحياة، تتوقف أوّلاً على طبيعة اتجاهنا الذهني. ولكن أعظم من الكلّ أن يسيطر الإنسان على نفسه وأفكاره ومخاوفه، ولذا يقول “وليم جيمس”: “إنّ كثيراً مما ندخله في حساب الظلام والآلام، يمكن أن نحوله لحساب البهجة والسلام إذا سيطرنا على أفكارنا وغيرنا اتجاهنا الذهني”! يقول إبرهام لنكولن: “إنّ معظم الناس يصبحون سعداء بقدر ما ينوون بينهم وبين أنفسهم لأنّ السعادة تأتي أوّلاً من داخل القلب”. وقد أجمع علماء النفس على أنّ للأفكار المسيطرة على الإنسان تأثيراً عظيماً في تكييف حياته، إنّ أفكارنا هي التي تصيغنا واتجاهنا الذهني هو العامل الأوّل في تكويننا، قال إيمرسون: “أخبرني بما يدور في ذهن الرجل أخبرك أي رجل هو” وهذا حقّ فكيف يكون الرجل شيئاً آخر غير ما ينبئ عنه تفكيره؟. ومن حكم الفيلسوف “ماركوس أوريليوس” الذي حكم الإمبراطورية الرومانية قوله: “إنّ حياتنا من صنع أفكارنا” أجل فإذا راودتنا أفكار سعيدة كلنا سعداء. وإذا تملكتنا أفكار شقية أصبحنا أشقياء. وإذا سيطرت علينا أفكار السقم والمرض، فالأرجح أن نمسي مرضى سقماء، وإذا نحن فكرنا في الفشل، أتانا الفشل من غير إبطاء. فإن كانت أفكارنا طاهرة مبهجة كانت حياتنا مشرقة مفرحة.
ومن أحسن ما قاله أحد الحكماء: حين تجد لديك ليمونة ملحة. أصنع منها شراباً حلواً. قال غيره: الحكمة كلّ الحكمة ليست القدرة في أن تستثمر مكاسبك فقط بل أن تحوّل خسائرك إلى مكاسب أيضاً. فيجدر بنا أن نجتاز مرحلة الحياة القصيرة بمنظار التفاؤل وبعين الرضا. وما أعذب أن يبتسم المرء للحياة ويرى فيها جمالاً رغم ما فيها من الدخان المتطاير والقتام المتكاثف. فهذه النظرات الصحيحة أضمن للسعادة وأقوم للاتجاه الفكري والتوجيه الرشيد السليم. فكن متفائلاً تعش سعيداً! ►
المصدر: كتاب فن التعامل مع الناس