الخميس 19 سبتمبر 2024 / 16-ربيع الأول-1446

بيت الخبرة للمتقاعدين



بقلم د.خالد الحليبي

في لحظة ما تستيقظ أربعون سنة ـ أو نحوها ـ من العمل والكدح والركض في الجهات الست، فيلتفت الأقربون والأصدقاء الخلص، وعدد من الشهود على محطات التأريخ الشخصي، الذين يمثلون منارات السيرة الذاتية للإنسان، يلتفتون إلى من كان رقما من الأرقام في مؤسسة ما، أو اسما متواريا في زحمة الأسماء، حين تدق ـ فجأة ـ ساعة العمر الوظيفي آخر دقة؛ لتقدم له لقبه الجديد (متقاعد)، فيتلون اسمه بألوان متموجة، تجعله الأول في ذاكرة الجميع، فيحفون به؛ ليزفوه إلى عهد جديد من عهود الحياة، عهد مختلف تماما؛ كلهم يجهلونه، والأسوأ من هذا أن يجهله هو.
تنهلُّ الذكريات كمسبحة من اللؤلؤ الوضيء، يتناثر في جو في البهجة المغلفة بالأسئلة الغامضة الشفافة في وقت واحد، أسئلة لا تطرح، بل تكمن بهدوء وراء عدد من الكلمات المحفلية، ينطق بعضها بالحب والعرفان، وذكر المنجزات والإبداعات، وتعداد النجاحات والمنتجات، ويتمنطق بعض آخر بقلادة من المجاملات التي يمليها الحضور الحميمي حول المتقاعد.
وتنتهي الزفة بابتسامات الوفاء، وبالعشاء، ثم ماذا وراء الأكمة .. ماذا وراء؟

شموخ من القيادة يتصدع بين جدران الحصار الزمني الشديد الوطأة، الدقيقة التي كانت تتبخر في أقل من زمنها الفعلي، أصبحت تتمطى بصلبها وتنوء بكلكلها، وتتمدد حيث شاءت أن تتمدد.
الأوامر والنواهي، والإبداع في التصميم أو في التصنيع أو في التأليف أو في الإنشاء والإدارة والتنظيم يضمحل هكذا كما يضمحل الملح في كوب ماء، وتصبح السنوات السابقات حلما جميلا يبقى أجمل ما يردده هذا الإنسان العظيم في نفسه، حتى وإن تناسى القوم عظمته، الذي يشعر أنه قدم ما يستحق أن يفرح به وما يفخر به حتى وإن كان في نظر غيره أمرا عاديا تكرر مع الملايين الذين سبقوه إلى المحطة الأخيرة من محطات العمر.


التقاعد حياة جديدة، هكذا يقولون له، وصدقوا، ولكنه إذا لم يقلها هو لنفسه، ويعشها حقيقة، فلا فائدة منها أبدا.
كما لا فائدة من قول لم يصحبه عمل جاد، وهمة وثابة، فالسنون المثقلة بالماضي قادرة على أن تحتفظ بثوبها التاريخي المزركش في متحف المنجزات الشخصية أو الوطنية أو حتى العالمية، وأن تحيك لها ثوبا جديدا يتناسب مع المرحلة الجديدة، شكلا ومضمونا.
فإن كمية هائلة من المعلومات والخبرات والمهارات التي تراكمت عبر الزمن، لا يمكن أن تذوي في لحظات، ما دام في العقل قدرة، وفي الجسم قوة، وفي القلب رغبة، بل هي أكثر ما تكون جاهزية لتكون مرجعية لجيل جديد يملك الطموح والأمل، ولا يمتلك من العلم والخبرة والمهارة ما تمتلكه تلك القدرات التي أنضجتها التجربة والمران، وهنا يأتي الدور المطلوب المفقود، وهو تجسير العلاقة بين الجيلين، بدلا من التفرج على الهوة السحيقة بينهما، فإن الخبرات يمكن أن تورث في جو مختلف عن الجو المعتاد في العمل الوظيفي ذي الظلال الرسمية الثقيلة بعض الشيء على الجيل الجديد بالذات، جو يمكن صناعته من خلال مؤسسة كاملة المواصفات ليس فيها سوى (المتقاعدين) الراغبين في توظيف قدراتهم وخبراتهم من جديد، بطرق محببة لهم، تتناسب مع خصائص المرحلة التي هم فيها، حيث تُلبى حاجات الحضور الفعلي، والسرد التاريخي للتجربة، وإغناء المجالس الاستشارية، والإشرافية، في حدود لا تجعل الجيل الجديد يفقد حقه في الريادة وقيادة الحياة.


إن (بيت الخبرة للمتقاعدين) فكرة يمكن أن تتبلور بسرعة، وتنجح بسرعة، لو تبنتها مؤسسة عريقة في النجاح، قادرة على توفير الإمكانات بالشكل المناسب في وقت قصير، وفي الوقت نفسه لديها عدد كبير من المتقاعدين الذين يمكن أن تقدمهم لمؤسسات المجتمع المدني، والجمعيات التطوعية التي تخدم المجتمع، وتقوم بدعمهم بقوة، وأرشح لذلك شركة أرامكو السعودية، حيث تجتمع فيها تلك المواصفات، وستكون المستفيد الأول من الفكرة، ويمكن أن تقوم بها شركات ووزارات أخرى لموظفيها المتقاعدين كذلك.

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم