مهما كان شغفك بالتحدث أمام الناس ورغبتك في أشدها إلا أنه قبل أن تقف عليك أن تمتلك الجاذبيات الثلاث وهي:
وهذه الجاذبيات الثلاث مرتبطة مع بعضها البعض وقبل أن تحسن التحدث عليك أن تحسن الإنصات فإذا أردت أن تستمع لك الناس فلا بد أن تستمع لها , وإذا أحببت أن يتاح لك في الحديث مجال , فامنح للناس مجالاً , كما كان النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم يفعل مع أهل قريش وغيرهم , وقد جاءه أكثر من مرة بعض فصحاء قريش وبلغائهم , ومن أحسنهم رأيا وعقلا , فأتاح لهم النبي صلى الله عليه وسلم الحديث , وأخذ ينصت بكل هدوء ولم يقاطع أحداً منهم , فهذا عتبة بن ربيعة أتاح له النبي صلى الله عليه وسلم الحديث وأعطاه مجالا واسعاً من الوقت يتحدث بما شاء بل كلّما توقف عن الكلام قال له أفرغت يا أبا الوليد أفرغت يا أبا الوليد؟ حتى قال: نعم , قال: فاسمع منى، قال: أفعل، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم «حم- تنزيل من الرحمن الرحيم…..إلى آخر ما قرأ صلى الله عليه وسلم ,وعتبة منصت كما أنصت النبي صلى الله عليه وسلم وقد ألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما، يسمع منه في هدوء ومن غير مقاطعة , بل لمّا أثّرت عليه الآيات لم يخرج من عنده من غير استئذان, ولم يقاطعه بحديث آخر بل أخذ يناشده أن يتوقف حتى لا يصيبه شيء من الوعيد المذكور في القرآن0
والهدوء الجذاب ليس ضعف في شخصية الفرد وإنما هو فن ومهارة من مهارات التحدث المؤثر وهو القدرة على ضبط النفس والتحكم في اللسان فترة حديث الغير, مع التفاعل الإيجابي للغة الجسد, وهذا يدل على مدى الوعي الثقافي الذي اكتسبه المتحدث, حتى جعله يعرف متى يسمع ومتى يتحدث في الوقت المناسب مع مراعاة وتقدير حالة المتحدث ، وهو من أجمل الصفات التي يمكن أن يتحلّى بها الإنسان وبها يسلب قلوب الناس بحبهم له وينال إعجاب كل من حوله
وبمعنى آخر نقول الهدوء الجذاب هو: الإنصات بتفاعل لغة الجسد كالتبسم وهز الرأس والإقبال إلى المتحدث بوجهه وجسده كله وعدم الانشغال عنه بغيره0
قال الحسن البصري “: إذا جالست فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول , و تعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن القول , و لا تقطع على أحد حديثه” 0المنتقى ( ص72)
و قال معاذ بن سعد الأعور” : كنت جالساً عند عطاء بن أبي رباح , فحدّث رجل بحديث , فعرّضَ رجلٌ من القومِ في حديثه , و قال : ما هذه الطباع ؟! , إني لأسمع الحديث من الرجل و أنا أعلم به , فأريه كأني لا أحسن شيئاً “(1) روضة العقلاء (ص72)0
و قال المدائني : أوصي خالد بن يحيى ابنه , فقال : “يا بُنيَّ , إذا حدَّثكَ جليسُكَ حديثاً فأقبل عليه و اصغِ إليه , ولا تقل : قد سمعته , و إن كنت أحفظ منه , فإن ذلك يكسبك المحبة و الميلَ إليك0 (2) بهجة المجالس لابن عبد البر (43/1)
و قال إبراهيم بن الجنيد : قال حكيم ٌ لابنه” : يا بُنَيَّ , تعلم حُسنَ الاستماعِ كما تتعلم حسن الكلام , فإن حسن الاستماع إمهالك المتلكم حتى يفضي إليك بحديثه , و الإقبال بالوجه و النظر , و تركُ المشاركة بحديث أنت تعرفه” (3) الفقيه و المتفقه (32/2)
في كتاب ستيفن كوفي “العادات السبع لأكثر الناس إنتاجية”، تحدث الكاتب عن أب يجد أن علاقته بابنه ليست على ما يرام
فقال لستيفن: لا أستطيع أن أفهم ابني، فهو لا يريد الاستماع إلي أبداً
فرد ستيفن: دعني أرتب ما قلته للتو، أنت لا تفهم ابنك لأنه لايريد الاستماع إليك؟
فرد عليه “هذا صحيح”
ستيفن: دعني أجرب مرة أخرى أنت لا تفهم ابنك لأنه -هو- لا يريدالاستماع إليك أنت؟
فرد عليه بصبر نافذ: هذا ما قلته.
ستيفن: أعتقد أنك كي تفهم شخصاً آخر فأنت بحاجة لأن تستمع له.
فقال الأب: أوه (تعبيراً عن صدمته) ثم جاءت فترة صمت طويلة، وقال لمرة أخرى: أوه!
إن هذا الأب نموذج صغير للكثير من الناس، الذي يرددون في أنفسهم أوه أمامنا: إنني لا أفهمه، إنه لا يستمع لي! والمفروض أنك تستمع له لا أن يستمع لك!
الوضوح في حياة المتحدث
“كلما كان المتحدث واضحا في منهج حياته كلها , عقيدة وسلوكا , واضحا في علاقاته ومبادئه, كلما استطاع أن ينفي عن نفسه التلوث بمواقع الفتن والنقاوة من الشبه ومواقع التهم , وأن يثبت لغيره الصدق والنزاهة0″(4) ( مقتبس من المتحدث الجيد/25- بكار)0
عنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ رضي الله عنها قَالَتْ : كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعْتَكِفًا . فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلاً . فَحَدَّثْتُهُ , ثُمَّ قُمْتُ لأَنْقَلِبَ , فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي – وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ – فَمَرَّ رَجُلانِ مِنْ الأَنْصَارِ ، فَلَمَّا رَأَيَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْرَعَا . فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : عَلَى رِسْلِكُمَا . إنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ . فَقَالا : سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وكبرا عليهما. فَقَالَ : إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ . وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا – أَوْ قَالَ شَيْئًا . رواه البخاري ومسلم0
فكن واضحا في حياتك كلها وإياك والتلوّن فلقد رأيت وسمعت ممن اتصف بهذه الصفة وهي عدم الوضوح في المنهج والتلون في السلوك والأفكار ويمكن أن نقول بأنه يعيش بصفة ذي الوجهين يساير الناس حسب ما يريدون فإن رأى أهل الصلاح أمامه تلبس بالتقوى والورع , وإن رأى أهل الهوى والضلال تلون بلونهم فماتدري من أي الفريقين هو, ولذلك قد يعجب الناس بحديثه في أول وهلة وربما في الثانية والتي بعدها ولكن سرعان ما ينكشف عن حقيقته فينسلخ حبه من قلوب الناس, فإياك والتلوّن , وكما قيل من عاش بوجهين مات لا وجه له.
————————————————————
كتبها: يحيى بن إبراهيم الشيخي