عرف الشعب المصري بصناعة النكتة، بظرف مبهر، وسرعة بديهة، وجرأة أدبية، وظهر فيه الأدب الساخر، شعرا ونثرا، وكانت بعض الأنظمة تخصص مكتبا لدراستها؛ لعلمها أنها تمثل نبض الشارع، وأنفاسه الصاعدة الهابطة، بعفوية تجعل منها أصدق وسيلة للتعبير عن ردود الأفعال تجاه أية قضية تحدث.
ويبدو أننا أصبحنا ننافس إخواننا المصريين في هذه الصناعة المحبوبة للإنسان، فلماذا؟ هل هي من باب الترفه؟ أم لإضفاء نكهة الطرفة على لقاءاتنا، وعلى أعمدة وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت من أبرز محاضنها؟ أم لأنها تقرؤنا من الداخل بهدوء وعفوية؟
كلنا يعشق النكتة، وينتظرها، ويفضلها في القراءة الانتقائية على غيرها، ويشعر بأنها استراحة محارب وهو يكدح في هذه الحياة، “ساعة وساعة”، كما ورد في الحديث الصحيح؛ مؤكدة بتكرار نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثلاثا.
وقد عجبت حين رأيت جميع من درستُ نتاجهم من شعراء الفن الساخر، أنهم هم شعراء القلق والحزن والاكتئاب.
وقد تجد ذلك ماثلا في الذين عرفوا بكثرة (التنكيت)، أنهم غالبا من أرباب الهموم، وكأنما (النكتة) أصبحت لهم مسربا يتنفسون من خلال رئتيها الضاحكتين.
أرأيت كيف تضحك أحيانا إذا استدارت عليك الأمور حتى تظنها مقفلة تماما؛ لتوهم نفسك بأنك لا تزال قويا؟
أرأيت كيف تبتسم في وجه خبر مؤلم؛ لتهزمه، وتتجلد لترسم ابتسامة صفراء باهتة في وجه من تريد تصبيره على مصابه، وأنت تعاني ـ ربما ـ أكثر منه؟
أرأيت كيف يهرع الشاعر المعاصر إلى الأسطورة والأدب الساخر والرمز، حين يشعر بالاحتباس، وينعقد لسانه عن الحديث الواضح؛ لأنه لا يستطيع أن يحمِّلَ الكلمة المباشرة كل دلالات المشاعر المتوهجة في خلده؟
أرأيت كيف يستعر (تويتر) بالنكات السخيفة، وأخواتها العنيفة، وبنات عمها الضاربة في القذارة؛ ليعبر بعض الناس عن موقف ما؟ قد يكون فيه إضرار بأمن بلاده، والإسهام في تفتيت بنية المجتمع دون مبالاة.
أرأيت كيف شاعت النكات عن (الحشاشين)؛ حتى قلَّدَتْهم أوشحةَ الذكاء والعبقرية في الردود؛ فكانت أحد وسائط الترويج للحشيش والمخدرات؟
أرأيت كيف ينسى (المبدع الفارغ) نفسه، ويتنكر لثقافته، ولبعض تعاليم دينه، بل حتى لأمه وأخته وزوجته وابنته؛ فلا يجد إبداعا إلا في الإزراء بالمرأة السعودية، واستصغارها بين نساء العالمين؟!
أرأيت كيف يسخر بعضنا من الشعوب الأخرى، حتى ألصقنا ببعضهم صفات نتقاسمها معهم، وجعلنا بعضهم الآخر رموزا للغباء والكسل والتخلف؟!
ثم عدنا إلى أنفسنا، فصرنا نلمز شعبنا الكريم، ونصمه بمجموعة من العيوب التي لا تليق بمثله، ونعمم كل خطأ يقع فيه أيُّ شخص منه.
(النكتة) حين تلبس ثوب (الكاريكاتير)، فإنها تصنع مثله، تركز على نقطة صغيرة فتكبرها؛ حتى تتضح للرائي، ولا ما نع من ذلك إذا كان النقد إيجابيا، وليس انتقاميا، بناء وليس هدما.
ولأن الهدف من (النكتة) الإضحاك، فإن مبتكرها، وراويها يغريه الهدف عن الالتزام بالحقيقة إذا كانت مرتبطة بالواقع وليست من بنات أفكاره، فيكذب حين يرويها، ويكذب حين ينسبها إلى شخصية حقيقية.
المصيبة أن كثيرا ممن ينسجون أحابيل (النكات)؛ ليستدروا ضحكات الناس، ربما كانت لهم مآرب أخرى، تدخلهم في قول المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “ألا هل عسَى رجلٌ منكم أن يتكلَّمَ بالكلمةِ يُضحِكُ بها القومَ فيسقُطَ بها أبعدَ من السَّماءِ، ألا هل عسَى رجلٌ منكم يتكلَّمُ بالكلمةِ يُضحِكُ بها أصحابَه، فيسخَطُ اللهُ بها عليه لا يرضَى عنه حتَّى يُدخِلَه النَّارَ” (حديث حسن).