كلّ الأطفال يستخدمون المعارضة: إما ليتكيّفوا مع مرحلة جديدة من حياتهم، أو ليكتسبوا استقلاليتهم، وإظهار الطفل لمعارضته شيء ضروري وصحي لنموه بشكل جيد، مهما بدا الأمر متناقضًا، يمكن القول إن الطفل بحال جيدة حين يعارض.
فالمعارضة هي انعكاس لمرحلة جديدة من حياة الطفل، ومن رغبته بالاستقلالية، وبالتالي، يعيش الأهل بشكل دائم ومنتظم وضعيّات، لا بل مراحل، من المعارضة تستمر عموماً إلى أن يستقل ويترك المنزل الأسري. هذا، ويحصل التعبير عنها في المجال أو المجالات المتعددة، التي تتضمن فرض الممنوعات (العائلية، الاجتماعية، المدرسية)، والتي تساعد الطفل على تكوين قوانينه الداخلية انطلاقًا من إدراكه الشخصي لهذه الممنوعات (وهذا ما يسمى «الأنا العليا»).
ومن الممكن أن تكون هذه المعارضة عبارة عن موقف رفض عام، حيث تتواتر الصراعات بشكل يومي، وحيث تتعدد مواضيعها وتتنوع: يمكن التمييز هنا بين شكلين (الرفض الناشط والرفض السلبي – العدائي) وهما غير متماثلين، إن من حيث الدلالة، أو من حيث المظاهر أو النتائج (أي ما ينجم عنهما من انعكاسات).
الرفض الناشط: هو الذي يتم التعبير عنه بـ«لا» واضحة، ببكاء، بغضب، بعدوانية لفظية…إلخ، من مظاهره الأكثر تواترًا نذكر: رفض البيبرون، رفض الأوامر والتعليمات، رفض القيام بالفروض والواجبات، التعبير عن مظاهر غضب مع التلفظ بإهانات، أو مع حركات عنيفة أي، باختصار، القيام بسلوكات ظاهرة خارجيًا، لكن، تجدر الإشارة إلى أن معظم الرافضين الناشطين لا يذهبون بعيدًا من حيث المشاكسة والصراع: فهم، غالبًا، أطفال يجادلون ويجب التصارع معهم ليقوموا بتنفيذ ما يُطلب منهم.
وتعتبر بعض مراحل الطفولة، مولدة لهذا النوع من الرفض:
– من السنة الثانية إلى أربعة أعوام: حيث يبدأ الطفل بضبط اللغة، وينمو الإحساس عنده، بقيمته كشخص قادر على تحقيق التواصل مع الآخرين، والتأثير فيهم: في هذه المرحلة، يرفض الطفل عمليًا كل شيء، ويقيّم نتائج رفضه، بحيث يعيد تكرار الأكثر تأثيرًا في هؤلاء ويترك السلوكات الأخرى.
– مرحلة ما قبل – المراهقة (10 – 12 سنة) – وتتميز بوضعية خاصة، إذ يطلب من الطفل ترك أحلام أو مواقف الأطفال، لكن يمنع عليه التصرف كمراهق، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يترك المدرسة الابتدائية على المستوى المدرسيّ، ليجد نفسه ضمن إطار تربوي لن يتغير منذ السنوات العشر حتى سبعة عشر عاماً، وعلى المستوى الفيزيقي (الجسدي)، العقلي والعاطفي، هناك تفاوت بالنسبة للزملاء الذين يلتقيهم يومياً.
يواجه أطفال هذه المرحلة الإكراهات (الضغوط) نفسها: العائلية، المدرسية والاجتماعية – الثقافية المفروضة على المراهقين، وهم يترجمون انزعاجهم من هذا الوضع عن طريق رفض ناشط وشامل تجاه كلّ الإكراهات، رفض يهدف لإظهار اختلافهم عن المراهقين، لكن، بما أنهم مازلوا يجهلون تمنياتهم الفعليّة بخصوص المستقبل، فإنهم يرفضون كلّ شيء دون أن يكونوا قادرين على إعطاء التفسيرات الكفيلة بإيضاح رفضهم.
– مرحلة المراهقة: حيث تبدو المعارضة في أوجها، وهذا أمر طبيعي.
فلكي يصبح مراهقًا، على الطفل دفن معتقداته الطفلية السابقة، ومنها اعتقاده بأن أهله هم الأجمل، الأقوى، يعرفون كلّ شيء…إلخ، وبمقدار ما يكبر، يحتاج إلى هدم هذه الهوامة، الذي يتطلب مروره بعدّة مراحل:
المرحلة الأولى: حيث لا يتقبل الطفل إعادة النظر هذه بالنسبة للأهل كنموذج ويحاول، برعونة، إصلاح أهله محاولاً، بذلك، المحافظة على مثاله الهوامي للأهل الكاملين، وهذا المثال غير موجود، تماماً كمثال الطفل الكامل، غير الموجود هو الآخر.
المرحلة الثانية: حيث يقوم الطفل فعلياً بعملية الدفن للتخلص من هذا المعتقد، ومن الطبيعي أن يترافق ذلك مع ألم وحال نفسية مميزة: «فقد يتوصل لتحمل هذه الفترات المؤلمة عن طريق سلوكات تصحيح، إبداع أو تسامي: سيتابع بحثه من حيث التماهي، مثلا، عن طريق محاولة التشبّه براشدين يتخيّل أنهم مثاليون (وليتمكن من تحقيق الاستقلالية، يجب ألا يكون هؤلاء هم الأهل)، هنا نجد حيطان الغرفة تمتلئ بصور لأبطال رياضيين أو ممثلين… إلخ. وقد لا يتحمل هذا الألم، فيحاول إلغاء انزعاجه عن طريق سلوكات معارضة وانتقال للفعل (يتلفظ بتعابير نابية – عدائية، يكسر الأشياء فتتطاير شظايا، يتصرّف بعنف مثلاً) أو هروب أو انفجار غضب… إلخ.
المرحلة الثالثة: حيث يدرك الطفل واقع أن الأهل، وإن كانوا غير كاملين، فإنّهم نجحوا بأن يصبحوا راشدين، وهنا، سيحاول اختبار قوة مبادئهم وطبعهم كأهل عن طريق مهاجمتهم، فإن بقوا صامدين وثابتين في مواقفهم، يتخذهم مثالا له كي يصبح راشداً مستقلاً. غني عن القول هنا بأنّ «في كلّ مراهقة، هناك جريمة»، جريمة رمزية طبعاً، بحق الأهل لأخذ مكانهم، أي إبعادهم كي يصبح راشدًا ويتمكن من بناء منزله الخاص به، وهذا ما يفسر حدّة مشاهد المعارضة في هذه المرحلة من العمر.
الرفض السلبي – العدائي: هنا، يقول الشخص «نعم» بهز الرأس و«لا» بالقلب، فالرافضون السلبيون، العدائيون يتجنبون الوضعيات غير السارة دون الدخول في صراع، رسمياً، هم دائمو الموافقة، لكنهم يتدبرون أمرهم ليفعلوا ما قرروا هم فعله:
في البيت: يقولون بأنّهم يملّون (يضجرون)، ومع ذلك، لا يمكن التحدث معهم إن كانوا يشاهدون التلفزيون مثلا أو…، يوحون بالانطباع أنه يُطلب منهم الكثير (القمر مثلاً) تجاه أي طلب يتم توجيهه إليهم، لا يقبلون التعرّف على أخطائهم ويلقون المسئولية على الآخرين (قد يحلفون، لدى ارتكابهم خطأ إملائيا، أن الأستاذ هو من علّمهم بهذه الطريقة).
مع رفاقهم: يندمجون معهم، في مرحلة أولى، لأنّهم دائمو الموافقة على ما يقال، وقد يعدون، مثلا، بإعارة أشيائهم للرفاق، لكنهم، إن لم يكونوا يريدون ذلك، فإنهم يستنبطون أكاذيب لتبرير عدم جلبهم لها. وأكاذيبهم هذه سرعان ما تؤدي، في مرحة ثانية، لرفض الرفاق لهم حيث تكون ردة فعل هؤلاء قوية بمقدار ما كان تقديرهم الأوّلي لهم قوياً.
على مستوى التعلم: يعاني هؤلاء عموماً إخفاقاً مدرسياً، من تدن في احترام الذات، لكنّهم لا يفعلون شيئاً لتغيير موقفهم.
هذان النمطان من المعارضة لا يلتقيان إلا نادراً، لكن الطفل يلجأ غالباً لهذا النمط أو ذاك تبعاً للظروف كالكذب لتجنب تلقي القصاص أو الانخراط الشخصي في عمل ما، الغضب، العدوانية اللفظية أو الرفض الصريح لتأكيد الذات تجاه بعض المفروضات،… إلخ، لكن، تجدر الإشارة، هنا، إلى أن للموقف العدواني الفضل بأنه صريح، حتى وإن كان متطرفاً، إذ يسمح، بعد انقضاء الأزمة، بمناقشة المشاكل التي تمّ عرضها وليس لتجنبها.
هنا يفرض التساؤل الجوهري التالي نفسه على الأهل: حين يعارض الولد، ماذا نقول؟ ماذا نفعل؟
لابدّ من تنبيههم، بادئ ذي بدء، لواقع كون المعارضة لا تشكّل سوى الجزء المنظور، نوعاً ما، من المشكلة: فالطفل، المراهق على وجه الخصوص، يستخدم العديد من الوسائل الملتوية ليعبّر عن سوء حالته (ليقول إنه ليس على ما يرام)، فهو يتخيّل، عن خطأ أو عن صواب، أن الأهل يفهمون ألمه النفسي بشكل أفضل إن عبّر عنه، مثلاً، عن طريق الجسد، وهنا يحصل الخطر الأكبر، إذ قد يتم التركيز على الأعراض الظاهرة أو قد يحصل حوار أو عراك حول هذه الأعراض السطحيّة للمعارضة، في حين يبقى الاضطراب الأكثر عمقاً خارج الإطار فيزداد خطورة… إلخ.
لذا، من المتوجب على الأهل، كخطوة أولى، تقييم الوضعية: هل هي سوية أم غير سوية؟
بمعنى آخر يجب أن يكونوا قادرين على التمييز بين السلوكيات السوية (أي المتلائمة مع مميزات النمو) وبين السلوكيات المثيرة للتساؤل، وهذا ما يتطلب منهم تعلم الملاحظة والتقاط بعض مؤثرات الصحة، أي معرفة ما السلوكات التي يجب أن تشغل بالهم، وما السلوكات التي تعتبر عادية بالنسبة لنموّه، يشكل ذلك، في الحقيقة، أول مرحلة في برنامج التغيير الذي سيضعونه، ثم إن السلوك يمكن قياسه وملاحظته (مثل حرارة الجسم).
وباختصار، نقول: تجاه سلوك الطفل، على الأهل طرح الأسئلة الثلاثة التالية على أنفسهم:
– هل هو قادر، على المستوى النفسي والعاطفي، على تحقيق ما يطلبونه منه؟
– والتعليمات التي وجّهوها له، هل هي دقيقة وواضحة بشكل كاف كي تكون قابلة للتطبيق؟
– ومواقف الطفل و/أو المراهق، هل هو موقف رفضي واضطرابي أم أنه ببساطة تعبير عن عدم قدرته على احتمال الإحباط.
نصائح عملية
كي لا نطيل، في هذا المضمار، نتوجه للأهل بالنصائح العملية التالية (وهي ناجمة عن خبرة وممارسة علاجيتين طويلتي المدى من قبلنا، ومن قبل العديد من المعالجين النفسيين) التي تساعدهم بمقدار كبير:
– تجنبوا، قدر المستطاع، الدخول في صراع مع الطفل أو المراهق، وإن اضطررتم لذلك، فأوقفوا العراك بأسرع ما يمكن لأنّكم الخاسرون مسبقاً.
– لا تشعروا بالذنب، فلستم عرّافين، ثم، مع أفضل إرادة في العالم، تبقى الصراعات موجودة ومستمرة.
– لا تنسبوا الصراع لأنفسكم، فابنكم يحاول بكل بساطة، اختبار حدوده أو رؤية إن كان بإمكانه تسييركم.
– تقبّلوا الإخفاقات، فلستم كاملين (لا وجود لإنسان كامل، كما لا وجود لطفل أو مراهق كامل).
– فسّروا موقفكم مرة واحدة، لا تدخلوا في جدال معه، فأنتم الخاسرون مسبقاً.
– تقبّلوا، لا بل ساعدوه ليعبر عن إحباطه، فالتعبير اللفظي وغير اللفظي يساعده كثيراً على التنفيس عمّا يعتمل بداخله ومن ثم، على الارتياح.
– لا تكثروا من استخدام القصاصات، وعلى العكس، أكثروا من استخدام التدعيم والتركيز على السلوكات الإيجابية والمتكيفة التي يقوم بها.
– لا تحسّوا أنكم وحدكم من يواجه مثل هذه الصعوبات، وأنكم مسئولون عن كلّ سوء يحدث، حاولوا مناقشة ذلك مع أهل آخرين (خصوصاً الصادقين منهم)، فسرعان ما يتبين لكم أنّهم يواجهون المشاكل مع أولادهم: استغلوا الفرصة وتبادلوا الخبرات فيما بينكم إذ من شأن ذلك مساعدتكم على مواجهة الصعوبة بتقاسمها مع الآخرين وبالاغتناء مما يقدمه لكم تبادل الخبرات فيما بينكم.
– لاحظوا دون تأويل: خذوا حذركم من انفعالاتكم وردّات فعلكم (اللفظية وغير اللفظية).
– حاولوا دائماً استعادة التواصل مع ابنكم (أو ابنتكم): فالصراع والشجار… يحولان دون ذلك أما الحوار الهادئ فيؤمنه.
– حاولوا دائماً إيجاد مجال ثان للتفاهم، فيما بعد: من الأسهل دائماً فهم الأمور بعد أن تهدأ الحالة.
– لا تسمحوا أبداً للاعتقاد بأنّكم مربون سيئون يسيطر على ذهنكم.
– اعتبروا، منذ البداية، أن السلوك (سلوك المعارضة خصوصاً) هو مؤشر على الصحة: صحة ابنكم (أو ابنتكم) الذي يكبر، يصبح أكثر استقلالية وتتطور شخصيته، ودوركم، يكمن في رعاية هذا النمو والتطور المحققين عنده وتأمين الإطار السليم لهما.
– خذوا الوقت الكافي لتقييم النصائح الموجهة إليكم، إذ ليس من السهل تطبيقها ضمن الإطار اليومي: فقد تشعرون، في أحيان كثيرة، أن الأحداث تتجاوزكم (وهذا أمر طبيعي)، لكن ثقوا بأنفسكم وتذكروا دائماً أنكم لستم وحيدين، وأن الوقت يجري لمصلحتكم.
– لا تترددوا أبداً باستشارة الأخصائي حين تحسّون بأن الأمور تتجاوزكم، فكلما جاءت المعالجة بشكل أبكر كان الحل أسرع، وإمكانات الشفاء أكبر وأفضل، وإلّا فإنّ الأمور ستتفاقم وستتأزم الأحوال.
كخلاصة لما سبق، نعيد التركيز على واقع كون سلوك المعارضة (أو أي سلوك اضطرابي وإشكالي) عند الطفل أو المراهق هو عبارة عن طريقة اتصال غير مباشر يسمح له بتحقيق فوائد مباشرة كالاستئثار باهتمامكم، تجنب القيام بما تطلبونه منه (أو منها)…إلخ، كما يسمح له – وعلى المدى الطويل – بتأكيد شخصيته ورغبته بالاستقلالية لكن، شرط ألا يكون مكثفًا (حادًا) ويؤدي لتهميشه، ولإثارة الاضطرابات بالعلاقات أو بالدينامية العلائقية المميزة للعائلة. إن كان كذلك، على الأهل التصرف وأخذ الأمور بأيديهم (تعتبر هذه آخر مرحلة في برنامج التغيير). وهنا، نشير إلى أن التغيير ممكن، لا بل يحققه الأهل غالباً، في مسيرة حياتهم العائلية، ودن أن يدروا، يساعدهم في ذلك الحب والعفوية المميزان لهم كأهل، ما القول، إذن، حين يضيفون لهذه القدرة العفوية فعالية التخطيط له (أي للتغيير)؟
باختصار نقول: من غير الممكن، ومن غير المطلوب، تغيير شخصية الولد، لكن إمكان تعديل الأهل للسلوكات الإشكالية التي تظهر عنده تبقى شديدة الارتفاع، خصوصاً حين يتعاملون معها بالشكل الموضوعي الذي تم التركيز عليه في السطور السابقة: تقييم ومن ثمّ، معالجة كلّ سلوك بمفرده: بدءاً بالأقل حدّة واضطراباً، صعوداً للأكثر إشكالية.