“إنّ الميلادَ الحقيقي للإنسان ليس تلك اللحظة التي يخرج صارخاً إلى الدنيا من رحم أُمّه، وإنما يولدُ الإنسان في اللحظة التي يعثرُ فيها على مشروعه”.
إنّ ثمّة علاقةً كبيرةً ومتينةً بين النَّجاح والمشروعِ، وهي ذات العلاقة بين الناجحين والمشاريع، فقلَّ أن تجد ناجحاً استطاع أن يرسم اسمه في عقول الناس إلّا وتجد له مشروعاً تعلَّق به، وتوجَّه إليه، وبذلَ له كلَّ ما يملك من وقتٍ وجهدٍ ومالٍ، حتى صار له هذا التاريخ الذي يشهد به الآخرون.
تحدث الدكتور عبدالكريم بكار عن هذا المعنى قائلاً: يستطيعُ كثيرٌ من أفراد هذه الأُمّة أن يتخيّل أن حياتَه عبارةٌ عن مشروعٍ أنشأته أمةُ الإسلام، واستثمرتْ فيه، ثمّ أوكلتْهُ إليه ليديرَه ويتابعَه، ويبذلَ فيه من ماله ووقته وجهده، وقد قبلَ هذه الوكالةَ، وشرع يحاولُ في جعل ذلك المشروعِ ناجحاً ومثمراً، بل يحاول أن يجعل منه مشروعاً نموذجياً بين المشروعات المناظرة.
إنّ ثقافة المشروع تُعطي معنىً لحياة الإنسان للدرجة التي تسلك به مواقف الكبار، وتضعه في قائمة الناجحين، وتجعل منه أنموذجاً يشار إليه بالبنان.. ولا أعلم كبيراً اليوم يملأ أسماع الناس ذكراً، إلا وهو صاحب مشروعٍ أخذ على عاتقه بناءَه، وعاش له لحظات حياته، وبذل كلَّ ما يملك، وفي النهاية كان لزاماً على الأُمّة أن تتوِّج تاريخَها بذكره.
إنّ كلّ إنسان يمكن أن يقدِّم عملاً صالحاً، لكن كلما افتقد هذا العمل روح المشروع ظلَّ جهداً عابراً، وخطواتٍ متفرِّقةً، ولحظات غير مرتبةٍ، وفي النهاية يجني ثمار دقائق حياته خيراً، لكن يفوت هذا العملُ حين تفوتُه ثقافة المشروع وروحُه ونضجه وقدرته على الاستمرار والتفوُّق، فيفوتُ صاحبه شيءٌ كبيرٌ، إذ يظلُّ في الغالب عرضةً للزوال.
إنّ المشروع يُعطي العمل قيمةً كبرى حين يجعلُه همَّ الإنسان وروحه وفكره ودقائق لحظاته، ويكتبُ على صفحاته اسم صاحبِ المشروع، وكاتب تاريخه، وصانع إنجازاته، ومهما كانت مشاركةُ الإنسن في أي عملٍ كبيرةً تظلُّ قوانينُ الكونِ ونواميسُه كلها تؤمنُ بهذا الجهدِ، وتقدِّر له حقَّه، لكنها تخرُّ ساجدةً مذعِنَةً لصاحبه الأوّل، غارقةً في حبِّه والثناء عليه، ذلك لأنّ معاناةَ الغرس في البداية أكبرُ بكثير من تعاهده بعد الكبر بالماء.
إنَّني أودُّ أن أقولَ لكلِّ من يقرأ أسطري هذه اللحظة: إنَّ قيمةَ الإنسان وحياته وروحه منوطةٌ بمشروع يتبنّاه في حياته، يعيشُ به هو أوّلاً أنفس لحظاته، وأروع دقائق أيامه، ثمّ يمدُّ به في خطوِ الأُمّة، ويبارك به مستقبلها، ويثبّتُ به في النِّهاية قدمَها على الأرض.. ويلقى الله تعالى يوم القيامة والأفراح أقصرُ ما تعبِّر عن تلك اللحظات، وقد لا يدركُ الإنسانُ كم هي أرباحه بمشروعه إلا حين يقفُ على أجوره وحسناته وتاريخه التي أودعه في تلك الأوقات من عمره.►
وتعظُمُ في عينِ الصَّغيرِ صِغارُها*** وتصغُرُ في عينِ العظيمِ العظائمُ