الأحد 22 ديسمبر 2024 / 21-جمادى الآخرة-1446

المرتشي الأنيق



“يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ المال؛ أمن حلال أم من حرام” حديث رواه البخاري، فهل يا ترى جاء هذا الزمان؟ وهل هو زماننا؟

يعلم مسلم بتحريم الربا وعظيم جريمته، وما يترتب عليه من محاربة الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم) ويقدم عليه، ويعرف الثاني الغش وبراءة الرسول (صلى الله عليه وسلم) من فاعله، ويمارسه، ويأخذ الثالث مال أخيه بالباطل والنكران وشهادة الزور والرشوة وتجاهل الحقوق دون مبالاة، ويعتدي الرابع على المال العام، ويتأول، ويبحث له عن العلل، ويبرر، ويقارن، وكأنه في صراع مع نفسه؛ ليقنعها بأن من حقه أن يأخذ ما دام فلان وعلان أخذ.

 

إن الاعتداء على أموال الناس أفرادا، أو مؤسسات، أو على أموال الدولة هو طريق الهلاك الشخصي، ويخشى إذا شاع أن يؤثر على الحياة كلها، والاقتصاد القومي كله، يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) : “ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم”.

 

فالغِنى – وهو أحد أهم روافد التقدم – أصبح هو المهلك ما دام من طرق الحرام، وقد كان السعي له سعيا إلى النجاة والحياة المرفهة.

نعى ربنا على أقوام هلكوا قبلنا أنهم سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ  [المائدة:42]، وهو الرشوة، قال الحسن رحمه الله: “كان الحاكم (أي القاضي) من بني إسرائيل إذا أتاه أحدهم برشوة جعلها في كمّه فأراها إياه وتكلم بحاجته، فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه، فيأكل الرشوة، ويسمع الكذب.

من عادة الطرق الملتوية للحصول على المال أن تكون في البدء مخيفة، وتصيب من يجترحها بالتردد، ثم يأنس بها شيئا فشيئا، ومتى فتح الإنسان لنفسه باب شرٍ فلن يغلق إلا أن يشاء الله تعالى.

(الرشوة) صغيرها مثل كبيرها؛ لأنها تصبح عادة، فمن قبل القليل سيتطبع ويقبل الكثير مستقبلا، إلا إذا استيقظ من غفلته وصحا من سكرته.

هي من أمّهات المظالم، ما خالطت عملاً إلا أفسدته، ولا حكما قضائيا إلا صحبه البغي، والجور، ولا نظامًا إلا قوضته، ولا قلبًا إلا أظلمته.

هذه الجريمة التي تختبئ بين مكاتب المؤسسات الحياتية التي تتعلق بها مصالح الناس، فتهدد كيان المجتمع، وتضيع الحقوق بين أفراده، وتنشر الفساد فيه، وتزرع بذور الفرقة والخلاف والعداوة والبغضاء بين صفوفه.

وتبدو هذه الجريمة في أثواب زاهية مغرية، تجتذب لها القلوب الضعيفة، فتقبلها أول مرة على أنها هدية من محب ليس لها علاقة بمصلحة، ثم تكبر الهدية وتقترب من المطالب المختزنة مسبقا، ثم تنهمر الرشوة مصحوبة بطلب صريح من المرتشي الأنيق، الذي اعتاد على هذه الهدايا الأنيقة، وسلبت لبه، وارتفعت بمستواه المادي، فأصبح يلبس أفخر الملبوسات، ويركب أفخم السيارات، ويختال بين أقرانه المبهورين بتطوره المادي المفاجيء، الذي لا يتناسب مع دخله العادي الذي يتقاضاه على عمله.

كل منا مسؤول عن تطويق تبديد الأموال العامة، ومحاربة الفساد المالي، والإبلاغ عن كل مجرم يتلبس بلبوس الكبراء، ويده ملطخة بقاذورات الاختلاسات، والسرقات الخفية.

ولن تجد أحدا تباركت أمواله، وسعُد بها مع أهله، إلا وهو نظيف اليد، تلك قيمة النزاهة، التي لا تعني مؤسسة فقط تقوم بدورها الوظيفي في تتبع هذا الخلل المدمر، لكنها تعني – أيضا – أن تعيش خلقا في صدور الناس وسلوكهم، وتغرس مع أبجديات الحروف في شرايين الرضع.

Dr_holybi@ تويتر

 

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم