الأثنين 25 نوفمبر 2024 / 23-جمادى الأولى-1446

الكرامُ لا يَفطنون لعَيب جارهم



من بديع ما قالَه سيِّدُنا عمرُ رضي الله عنه: (لا يَحل لامرئٍ مسلمٍ سَمعَ مِن أخيه كلمةً، أنْ يَظُنَّ بها سوءاً، وهو يَجدُ لها في شيءٍ مِن الخير مصدرا) فهذه الكلمةُ البليغةُ دلَّت عليها كثيرٌ من النصوص، والتي منها الحديث الذي رواه الإمامُ مالكٌ في موطَّئِه: (إياكم والظنِّ، فإنِّ الظنَّ أكذب الحديث) والظنُّ المنهيُّ عنه ليس الخواطرَ المجرَّدة، فهذه حديثُ نفسٍ لا يَسلمُ منها أحد، وإنما المنهيُّ عنه هو أن تَركنَ النَّفسُ إلى التُّهمة، أي أنْ يَميلَ القلبُ إليها، من غير بيِّنةٍ تدلُّ عليها دلالةً جليَّةً لا تحتمل التأويل، قال الإمام الغزالي: (وهو حرامٌ كَسُوءِ الظنِّ بالقول) والقول في المجالس أو في مواقع الإنترنت أشدُّ حرمةً من سوء الظن في القلب، لأنه سوء ظنٍّ وغيبة، وربما كان بهتاناً، فقَبْلَ أكثر من عشر سنوات زارني رجلٌ فاضل، وأفضى إليَّ باستيائه مِن وزير التربية وَقْتَها، وهو الدكتور محمد الرشيد رحمه الله، واتَّهمه بأن له أفكاراً وأهدافاً سيِّئةً يخفيها عن الناس، فقلت لمحدِّثي: حدِّثني عن شيءٍ من هذه الأفكار؟ فنظر إليَّ باستغراب قائلاً: إن بعض الناس تتبَّع أقواله، واستخرج مِن متفرِّقاتها ما يُفهم منه سوءُ طويَّتِهِ، قلت في نفسي: مهما أوتي الوزير من البلاغة، فلن يَسلَم من سوء ظنِّكم، وسيُبتلَى بمن لا يَعرف غير سوء الظن، ثم قلت لمحدِّثي: أومَا قرأت نَهْيَ الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) أوَمَا سمعتَ أن سيدَنا

عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أُتيَ إليه برجلٍ فقيل له: هذا فلان تقطرُ لحيتُهُ خمراً، فقال: إنا قد نُهينا عن التجسس، ولكن إنْ يظهر لنا شيءٌ نأخذْ به) ثم قلت له أليس واجبك يا أخي إن رأيت خطأً أنْ تُرشِدَ وتنصح، لا أن تكون قعيداً في بيتك أو في المجالس تعِيبُ وتفضح؟ أطرق صاحبي خجِلاً، وانصرف ولم يُعقِّب، وتمضي الأيام فأقف على مقالٍ كتبه الدكتور محمد الرشيد رحمه الله في جريدة الرياض، فأَرى مِن وراء سطوره شكوى الحُرِّ مِن الضيم الذي أَلَمَّ به، كما قال الأوَّل: (لو كان ما بِيْ هيِّناً لَكَتَمْتُهُ**لكنَّ ما بيْ جلَّ عن كِتمانِ) إن الذبَّ عن أعراض المسلمين واجب، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من ذبَّ عن عرض أخيه ردَّ الله عن وجهه النار يوم القيامة) وقد كان مما أوصى به يزيدُ بن المهلَّب ابنَهُ مَخْلَداً: (إياك وأعراض الرجال فإن الحُرَّ لا يرضى مِن عِرضه بشيء) إن النَّظر إلى الناس بنظرة انتقائية، أيّاً كانت أغراضُها وأسبُابها، من شأنه أن يُغيِّبَ عنّا طَرَفاً من الحقيقة، فتَظهرُ الأشياءُ أمامَنا بخلاف ما هي عليه في الواقع، ثم إننا مأمورون بالتماس المعاذير، خصوصاً لأهل العلم والسِّن والفضل، وأن نحمل أقوالَهم وأفعالَهم على أحسن المحامل، لا أنْ نَشُقَّ قلوبهم، فقد صحَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعَ بعضَ الصحابة يُـشكِّكون في إسلام مالك بن الدُّخْشُم رضي الله عنه، فغضب وقال لهم: أليس يشهد أنْ لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله؟ فقالوا: إنه يقول ذلك وما هو في قلبه، فأجابهم تعليما وتأديبا وتهذيباً: ألا تراه قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجهَ الله؟ فكان الصحابةُ الكرام -بسبب هذه التربية- يصدق عليهم قول الشاعر: (لا يَفطِنون لِعيبِ جارِهِمُ ** وهُمُ لِحُسْنِ جوارِهِ فُطُنُ) فأسرار القلوب لا يَعلمها إلا علَّامُ الغيوب، أسأل الله ألا يجعلنا ممن يُحاسبُ الناسَ على ما تُخفيه ضمائرُهم وتُكِنُّه سرائرُهم.

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم