يتفاوت الناس في درجة إقبالهم على القراءة أوّلاً، وفي انتفاعهم من قراءاتهم ثانياً، فهنالك:
1- العاجزون عن القراءة بسبب أُميَّتهم، وهم يشكلون شريحة واسعة في عالمنا العربي، آخذة بالتناقص بفضل قوانين التعليم الإلزامي من جهة، وجهود محو الأُمية وتعليم الكبار من جهة أخرى، وهؤلاء الأُميون لديهم من الشعور بالنقص، ما يدفعهم إلى التعويض؛ إما بتحصيل مهارات ذهنية وإدارية تمكنهم من استخدام المتعلمين لتحقيق طموحاتهم، أو بالإقبال على تعلُّم القراءة، وتحصيل مافاتهم من العلم.
ورغم أن لدى هؤلاء الأُميين من الدوافع ما يحفزهم للتخلص من عقدة نقصهم وعجزهم، وأن مآلهم، إن عاجلاً أو آجلاً، إلى الانقراض، بسبب طبيعة العصر، وبرامج التعليم الإلزامي ومحو الأُمية، فإن كثيرين ممن تحرروا من الأُمية يعودون إلى التردي في حمأتها لأنهم لم يجدوا حولهم ما يثير اهتمامهم من المطالعات المتصلة بحاجاتهم النوعية، أو اختصاصاتهم المهنية، أو همومهم اليومية.
وقد تنبهت بعض الدول إلى هذه الظاهرة فأعدت برامج خاصة لمعالجتها، سهرت المؤسسات الحكومية على تنفيذها بالتعاون مع دور النشر والمشرفين على شؤون الثقافة، وجميع هذه البرامج أخذت بالاعتبار أن جمهورها يتميز بتعليم شكلي مقتضب، وأفق ثقافي محدود، وقدرة شرائية ضعيفة، وأن هدفها هو تنمية ملكات الأفراد، واستثارة مشاعرهم، والارتقاء بمؤهلاتهم المهنية، وإيقاظ شعور الثقة بالذات لديهم، وقد استخدمت لتحقيق هذا الهدف كلّ وسائل الثقافة والإعلام المسموعة والمرئية، والمسرح، والسينما.
وعلى المستوى التطبيقي أقامت منشآت ثقافية ثابتة (مراكز ثقافية)، ووحدات ثقافية متحركة مزودة بمكتبة متنقلة، وجهاز للتليفزيون، وفيديو، وتجهيزات لالتقاط وبثِّ الصوت، وآلة عرض سينمائية، مما يتيح لها عرض جميع ضروب الفن والثقافة المتوافرة. كما أقامت المعارض الثقافية، في مختلف المدن، وعلى مدار السنة.
2- القارئ الصدئ:
وهو غني عن التعريف؛ إنّه الذي يحسن القراءة لكنه لا يقرأ، متعللاً بأعذار كثيرة لتبرير إحجامه عن القراءة؛ فهو تارة يشكو كثرة العمل وضيق الوقت، وأخرى يتعلل بضعف البصر، وينحي باللائمة على برامج التليفزيون التي شدته إليها فحرمته من متعة القراءة..
تعلات واهية، يكشف زيفها وجود نخبة من القرّاء الناضجين، يعمل أحدهم في تخصصه المهني الذي يستغرق جلّ وقته اليومي، ويقوم بواجباته وتنمية علاقاته الاجتماعية على خير وجه، ويقضي مع الإذاعة والتليفزيون بعض الوقت، ويخصص لأسرته وقتاً كافياً، وينظم معهم رحلات ترفيهية، ويستمتع وإياهم في أوقات فراغ مشتركة، ويقوم بنشاطات كثيرة، ومع ذلك فإنّه يجد متسعاً من الوقت للقراءة والتأمل والنقد.. إنّه مسيطر على وقته، ينظمه ويعطي كلّ ذي حق حقه.
ومعظم القراء الصدئين، يبدأ بالابتعاد عن القراءة والكتاب، عند مغادرته مقاعد الدرس، وحصوله على الشهادة الدراسية، بحجة السآمة بعد دراسة مضنية من جهة، وللتفرغ للبحث عن عمل، وترتيب حياته المهنية من جهة أخرى، فكأنه يمنح جهاز تفكيره إجازة مؤقتة، على أن يعود لعالم القراءة بعد قسط من الراحة والاستقرار في حياته العملية، ثمّ يستمرئ هذه الإجازة ويخلد إليها حتى يكسوَه الصدأ، ويعزله عن عالم القراءة والكتاب.
وبعضهم يبدأ عزوفه عن القراءة نتيجة إخفاقه الدراسي، فينقلب هائماً على وجهه مبغضاً للكتاب، ويعزو إخفاقه إليه، ويبحث عن وجهة يحقق فيها ذاته، بعيداً عن عالم القراءة.
إنّ الحالتين كلتيهما، تشيران بأصبع الاتهام إلى نظامنا التربوي الذي يركز اهتمامه على الشهادة أكثر من الموهبة، وعلى الكم أكثر من الكيف، وإلى مناهجنا التربوية التي تقدم لنا المعلومات لنحشو بها أذهاننا قسراً، لا لنستمتع بها، ولنؤدي واجباً مفروضاً، لا لنمارس هواية مختارة، ننمي بها حب الاطِّلاع الذي فطرنا عليه، وتقدم لنا الكتاب بوصفه (شيئاً) لا بوصفه (نافذة) على عالم المعرفة.
ولسنا هنا بصدد معالجة أنظمتنا التربوية ومناهجنا، وإنما نحن بصدد معالجة مشكلة هذا (القارئ الصدئ)؛ هذا القارئ الذي يعتبر الشغل الشاغل لكل العاملين في مجال تنمية عادة القراءة، وتحسين أدائها، كيف نزيل عنه الصدأ الذي تراكم عليه، وعزله عن عالم القراءة.
ليتنا نملك عقاقير سحرية ما إن تمس جبين قارئ صدئ، حتى تبعثه على الفور قارئاً شغوفاً نهماً محبّاً للقراءة والكتاب.
لكننا – للأسف – لا نملك هذه العقاقير، فلنتابع رحلتنا مع أنواع القرّاء، ثمّ لننظر في مناهج التغيير وأساليب التقويم الكفيلة بمعالجة كلّ أسباب العزوف عن القراءة، وكلّ أنواع الخلل القرائي.
3- القارئ الديكور:
وهو الذي لفت نظره نموذج من تصميم لمنزل أو مكتب تحتل فيه المكتبة ركناً بارزاً، يعطي الزائر انطباعاً بأن صاحبه مثقف مهتم بالثقافة والكتاب، فبعد أن يجهز هذا الركن بالرفوف اللازمة ويرضى عن تقاطيعها وجماليتها، يبدأ بالبحث عن الكتب التي سيملأ بها هذه المكتبة، وأكثر ما يهمه تناسق ألوان كعوبها، ومقاييسها وأحجامها، وغالباً ما يصطحب معه مذكرة دوَّن فيها مقاييس الفراغات التي بقيت لديه في المكتبة، بعد الوجبة الأولى من الكتب التي نسقها على الرفوف، فهنا يحتاج إلى مسافة 50 سم بارتفاع 30 سم، وهناك لم يبق لديه متسع لأكثر من 15 سم بارتفاع 20 سم، وهنا تبرز المشكلة، فهذه موسوعة علمية تضم 25 مجلداً تشغل مسافة 75 سم، استهواه لون غلافها الجميل، فهل يجتزئ منها ما تتسع له الرفوف؟ أم يبحث عن أخرى أقل أجزاءً وأضيق مسافة، ويستعين بصاحب المكتبة ليحل له هذا الإشكال.. ليست صورة قارئ الديكور هذه، من نسج الخيال، بل هي واقع ينبئكم بأمثاله كلّ الذين مارسوا بيع الكتب، وإدارة المكتبات.
4- القارئ المتعالم:
وهو الذي لا يكتفي بالمظهر، وإعداد ركن ثقافي يجذب بجماله وتناسقه الأنظار، ويطري الزوارُ ذوق صاحبه الرفيع، وهم يحتسون القهوة بجواره، بل يتجاوز ذلك إلى الإدلاء بدلوه في سوق الثقافة، فهو يتحدث في مجالسها عن الكتاب الفلاني، ومؤلفه، ويعطي لمحة سريعة عن مضمونه، بل وينتقد تقصير المؤلف في إغفاله بعض جوانب الموضوع.. لقد أرشده صديقه إلى الطريقة التي تضمن له النجاح، فما عليه إلا أن يستوعب من كلّ كتاب مقدمته، وفهرس المحتويات، بالإضافة إلى حفظ العنوان واسم المؤلف، مما يوفر عليه عناء الدرس، والغوص في فصول الكتاب، والتوقف عند تعبير غامض، أو فكرة عويصة، أو مفهوم خاطئ.
وفي الحديث عن رسول الله (ص): “إن أوّل الناس يقضى يوم القيامة عليه… رجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأُتي به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت بها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثمّ أُمر به، فسُحِب على وجهه حتى أُلقي في النار”.
5- المولع باقتناء الكتب:
كتب صحفي يرسم صورة ساخرة لقارئ مولع بالتهام الكتب:
“إنّ الحياة دون كميات هائلة من الكتب المتناثرة في كلّ أرجاء المنزل هي في نظر المولع بالتهام الكتب أشبه بنهار لا شمس فيه، وإذاً مرَّ أسبوع دون أن يقتني فيه كتباً جديدة فإن يديه تأخذان بالارتعاش، والأمر بالنسبة إليه لا يتعلق بكتب قديمة نفدت نسخها، أو مخطوطات نادرة يحرص على اقتنائها محبو الظهور وهواة الشهرة، فما يلائمه هو النسخ العادية الموجودة على الرفوف في متاجر بيع الكتب، في متناول اليد، تنتظر من يحملها إلى البيت. إن نهمه إلى الكتب لا يعرف الحدود، ويتجاوز كلّ التخوم”.
وهذا، مع أن ولعه بالكتب لمجرد اقتنائها، وبعثرتها بانتظار فرصة لترتيبها، فإن أبناءَه سوف يفيدون منها، حين يجدون بين أيديهم مكتبة غنية، مثل بستان يدعوهم ليَقطفوا من كلّ شجرة زهرة. ولابدّ أن تواتيه فرصة، أو يدفعه الخجل من أولاده وزواره ليبدأ بالقراءة ذات يوم.
6- القارئ الناضج:
إنّه الهدف من الجهود المبذولة في تحسين القراءة، وإن لهذا القارئ سمات مميزة، وصفات، منها:
1- حماسته الصادقة للقراءة.
2- معرفته لأساليب البحث والتنقيب في مصادر المعلومات، وكيف يرجع إلى المعاجم والحوليات، وإلى المسوعات ودوائر المعارف وأمُهات الكتب، ومعرفته لكيفية استعمال بطاقات المكتبات، كي يصل إلى مبتغاه بسهولة.
3- تنويعه في المقروءات.
4- امتلاكه لمهارات القراءة الميكانيكية والفيزيولوجية، من حيث إدراك الحروف والكلمات، والتعرُّف عليها، والنطقُ الصحيح بها؛ من غير حذف ولا إضافة، ولا إبدال، ولا تقديم، أو تأخير أو تكرار، والأداءُ السليمُ لها عند القراءة الجهرية بحيث توافق النغمة معنى الموقف المعبر عنه، والمراعاة لصحة الإيقاع، وعلاماتِ الترقيم، وللسرعة المناسبة للموضوع وللمستمعين.
5- امتلاكه للمهارات العقلية؛ من حيث ثروةُ المفردات، وإدراكُ المعنى القريب والمعنى البعيد، وهدفِ الكاتب والمغزى الذي يرمي إليه، والعناصر التي ينقسم إليها الموضوع، والعلاقات المنطقية بين أجزائه، والأسلوب البلاغي للكاتب.
6- مقدرته على استعمال كلّ المعلومات التي تساعده على فهم الأفكار المطروحة كما أرادها المؤلف، سواءً منها المدخرة لديه، أو المتوافرة في بطون الكتب والمراجع.
7- مقدرته على صهر الأفكار الجديدة المكتسبة، مع الخبرة الماضية، مما يسمح برؤية الأشياء من زاوية جديدة.
8- مقدرته على تكييف سرعة القراءة مع الحاجة والوقت المتاح ومتطلبات الفهم والإدراك.
7- القارئ الناقد:
وهو ثمرة القراءة الناضجة، التي توفر للقارئ ملكةً نقدية تؤهله للتمييز بين نقاط القوة والضعف، والكشف عن التحيز والادِّعاء، ولتمحيص الصحة والخطأ في الأفكار.
وينبغي للقارئ الناقد أن يكون قادراً على معرفة مقدار صحة النص، وهل يتطابق مع الواقع؟ وهل يعبر عنه؟ وهل ثمة ترابط بين عناصر الموضوع؟ وهل يتسم تبويبه بالمنهجية؟ أم تتخلله الثغرات والقفزات؟ وهل وفق الكاتب في عرض أفكاره؟ وما مدى إبداعه؟ وهل جاء بفكر جديد؟ أم كان يجتر أفكاره، أو يكرر أفكار الآخرين؟ وما مدى أمانته العلمية، وخاصة في الاقتباس ونقل النصوص؟
وخلاصة القول، فإنّ القراءة الناقدة تتمثل في مقدرة القارئ على:
1- تحديد أهداف الكاتب، ومدى تحقيقه لها.
2- فهم النص، وربط الفكر بعضها ببعض.
3- تقويم المقروء، ومدى كفاية المعلومات وفائدتها، وصدقها وموضوعيتها.
4- اكتشاف أوجه التشابه والاختلاف في الأفكار بين الكاتب وغيره.
5- الكشف عن تناقضات الكاتب ومبالغاته وادِّعاءاته.►
المصدر: كتاب القراءة… أوّلاً