إن الغيرة من الأخلاقيات التي حث عليها الإسلام وزكَّاها ورغَّب فيها وامتدح أصحابها. ولكي يغرس الإسلام هذا الخلق ويؤصله في نفوس المسلمين جعل الحياء هو خلق الإسلام الأول، وأمر المسلمين بغض البصر وحفظ الفرج، وحرَّم الخلوة بالأجنبية، ونهى أن تسافر المرأة وحدها حتى ولو كانت مسافرة للحج إلا مع مَحرم، وأباح للرجل أن يتخلف عن الجهاد ليصحب زوجته في سفرها للحج، إلى غير ذلك من الأوامر والنواهي سداً لكل الذرائع التي قد تذهب الحياء وتخمد الغيرة في نفوس أصحابها فتنتشر الرذيلة وتعم الفاحشة وتنهار الأخلاق وتتقطع الأواصر وتظهر الأمراض التي لم توجد في أسلافنا.
قال تعالى: ﴿ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور 30 – 31].
1- أهمية الغيرة المحمودة: إن الغيرة المحمودة بها تُصان الأعراض، وتُحفظ الحدود والحرمات، وهي دليل على الإيمان القوي فكلما قل الإيمان من القلب كلما انفرط حبل الغيرة فلا ترى إلا التبرج والخلاعة والفجور والميوعة.
2- الغيرة المحمودة توصل إلى أعلى الدرجات: إن الغيرة المحمودة في ديننا من أصل الدين وقد يصل بسببها الإنسان إلى مرتبة الشهداء.
3- الغيرة المحمودة مِشرط حَجَّام وليست سيف فارس: إن الغيرة في ديننا لا يجب أن تكون سيفاً مُسلطاً على رقبة الزوجين يُنغص حياتهما ولا أن تكون خِنجراً في خِصر الأسرة يطيح بسعادتها وأمنها واستقرارها بل غيرة عقلانية معتدلة تقوِّم المِعوج وتهذب المائل وتُقيل عثرة المتعثر لأنه إذا اشتعلت نار الغيرة الهوجاء في النفوس لفقدت الثقة بين الزوجين ولخوَّن كلاً منهما الآخر وطلب مبرراً لكل كلمة ولكل تصرف ولاستحالت الحياة بذلك.
كان الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه يقول: ” لا تكثر الغيرة على أهلك فتٌرمى بالسوء من أجلك “.
4- الحب ليس شرطاً للغيرة المحمودة: إن الغيرة المحمودة في ديننا وإن كانت دليل على النخوة والحكمة والاتزان النفسي والسلوكي فليس بالضرورة أن تكون دليل حب بين الزوجين فقد ينقص الحب وقد يختلف الزوجين أيما اختلاف ولكن تظل الغيرة بينهما قائمة بباعث الفطرة السوية التي فطر الله الناس عليها.
5- الغيرة من أخلاق الجاهلية قبل الإسلام: عندما تذكر كلمة الجاهلية يتبادر إلى الذهن سيل من الفواحش والرذائل والمنكرات ولكن المجتمع الجاهلي شأنه شأن أي مجتمع آخر كان يوجد به من أخلاق الفطرة ما يستحق الإشادة مثل المروءة والكرم والشجاعة والغيرة.. الخ غير أن هذه الأخلاقيات كانت بدافع فطري وليست بدافع عقائدي.
لقد كانت الغيرة من أخلاق الجاهلية قبل الإسلام وكان من كمال الرجولة وتمام المروءة الحفاظ على أعراض الآخرين.
وكان مما قاله عنترة في هذا الشأن قوله:
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي ♦♦♦ حتى يواري جارتي مأواها
♦ وكان سبب المعركة أن كسرى بن هرمز ذكر يوماً الجمال العربي، وكان في مجلسه رجل عربي يقال له: زيد بن عدي، وكان النعمان قد غدر بأبيه وحبسه ثم قتله، فقال له: أيها الملك العزيز إن خادمك النعمان بن المنذر عنده من بناته وأخواته وبنات عمه وأهله أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة.
أرسل كسرى زيداً هذا إلى النعمان ومعه مرافق لهذه المهمة، فلما دخلا على النعمان قالا له: إن كسرى أراد لنفسه ولبعض أولاده نساءاً من العرب، فأراد كرامتك، وهذه هي الصفات التي يشترطها في الزوجات. فقال له ا لنعمان: أما في مها السواد وعين فارس ما يبلغ به كسرى حاجته؟ يا زيد سلّم على كسرى، قل له: إن النعمان لم يجد فيمن يعرفهن هذه الصفات، وبلغه عذري.
وصل زيد إلى كسرى فأوغر صدره، وقال له: إن النعمان يقول لك: ستجد في بقر العراق من يكفينك.
استشاط كسرى غضباً وجيش الجيوش لتأديب العرب على رفضهم تسليم بناتهم له ولأبنائه ولكن الحمية العربية في ذلك الوقت وغيرة العرب على أعراضهم وشرفهم واستنكارهم لطلبه جعلهم أيضاً يجيشوا جيوشهم وهزموا جيوش كسرى.
6- الإسلام لم ينسخ أي خلق قويم: عندما جاء الإسلام لم ينسخ ما وجده في المجتع الجاهلي من أخلاقيات حميدة ومن بين هذه الأخلاثيات خلق الغيرة الذي أقرَّه الإسلام وهذبه وأمر به المسلمين وفي الأحاديث النبوية وحياة الصحابة والتابعين شواهد كثيرة على ذلك.
أ- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” إن اللهَ يغارُ. وإن المؤمنَ يغارُ. وغيرةُ اللهِ أن يأتيَ المؤمنُ ما حرم عليه ” (رواه مسلم).
ب- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” المؤمنُ يغارُ واللهُ أشدُّ غَيْرًا ” (رواه مسلم).
ج- عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ” يا أمَّةَ محمَّدٍ، ما أحدٌ أغيَرَ مِن اللهِ أن يَرى عبدَه أو أمَتَه تَزني، يا أمَّةَ محمَّدٍ، لو تَعلَمون ما أعلَمُ، لضَحِكتُم قليلًا ولبَكيتُم كثيرًا “. (رواه البخاري).
د- عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خرج من عندها ليلًا. قالت فغِرْتُ عليه. فجاء فرأى ما أصنع. فقال ” مالكِ؟ يا عائشةُ! أَغِرْتِ؟ ” فقلتُ: وما لي لا يغارُ مثلي على مثلِك؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ” أقد جاءك شيطانُكِ؟ ” قالت: يا رسولَ اللهِ! أو معي شيطانٌ؟ قال ” نعم ” قلت: ومع كلِّ إنسانٍ؟ قال ” نعم ” قلتُ: ومعك؟ يا رسولَ اللهِ! قال ” نعم. ولكنَّ ربي أعانَني عليه حتى أسلمَ ” (رواه مسلم)
هـ- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ” كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم عندَ بَعضِ نِسائِه، فأَرسلَتْ إِحْدى أُمَّهاتِ الْمُؤمِنينَ بِصَحْفةٍ فيها طَعامٌ، فضَربَتِ الَّتي النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم في بَيتِها يدَ الخادِمِ، فسَقَطَتِ الصَّحْفةُ، فانَفلَقتْ، فجَمعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فِلَقَ الصَّحفَةِ، ثُمَّ جعَلَ يَجمَعُ فيها الطَّعامَ الَّذي كان في الصَّحْفةِ، ويَقولُ: غارَتْ أُمُّكم! ثُمَّ حَبَسَ الخادِمَ حتَّى أُتِيَ بِصَحْفةٍ مِن عندِ الَّتي هوَ في بَيتِها، فَدفَع الصَّحْفةَ الصَّحيحةَ إلى الَّتي كُسِرت صَحفتُها، وأَمسَك المَكسورَةَ في بَيتِ الَّتي كَسَرَت ” (رواه البخاري).
و- عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال، قال سعدُ بنُ عبادةَ: ” لو رأيتُ رجلًا مع امرأتي لضربتُه بالسيفِ غيرَ مُصْفِحٍ عنه. فبلغ ذلك رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ. فقال ” أتعجبون من غَيْرَةِ سعدٍ؟ فواللهِ! لأنا أغيَرُ منه. واللهُ أغيَرُ مني. من أجلِ غَيْرَةِ اللهِ حرَّمَ الفواحشَ ما ظهرَ منها وما بطنَ. ولا شخصَ أغيَرُ من اللهِ. ولا شخصَ أحبَّ إليه العذرَ من اللهِ. من أجل ذلك بعث اللهُ المرسلين مبشِّرين ومنذرين. ولا شخص أحبَّ إليه المدحَةَ من اللهِ. من أجل ذلك وعدَ اللهُ الجنةَ “. وفي روايةٍ: غيرُ مُصْفِحٍ. ولم يقل عنه ” (رواه مسلم).
ز- عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” ثلاثةٌ لا يدخلون الجنَّةَ… الدَّيُّوثُ، والرَّجِلَةُ من النِّساءِ، ومُدمنُ الخمرِ ” قالوا يا رسولَ اللهِ! أما مدمنُ الخمرِ فقد عرفْناه، فما الدَّيُّوثُ؟ قال: ” الذي لا يُبالي من دخل على أهلِه ” قلنا: فما الرَّجِلَةُ من النساءِ؟ قال: ” التي تشبَّه بالرجالِ ” (صحيح الترغيب).
ح- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ” بينما نحن عند رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم جلوسٌ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: (بينما أنا نائمٌ رَأَيْتُني في الجنةِ، فإذا امرأةٌ تتوضأُ إلى جانبِ القصرِ، فقلت: لِمَن هذا؟ قالوا: هذا لعمرَ، فذَكَرْتُ غَيْرَتَه، فوَلَّيْتُ مُدْبِرًا) فبكى عمرُ وهو في المجلسِ ثم قال: أَوَ عَلَيْكَ يا رسولَ اللهِ أغارُ؟! ” (رواه البخاري).
7- الغيرة تخطت الإنسان إلى بعض الحيوانات: إن الغيرة قد تخطت الإنسان إلى بعض الحيوانات فنجد منها ما يغار على أنثاه أيما غيرة ولا يسمح لذكر غيره أن يقترب منها.
وختاماً:
إن الإنسان إذا تجرد عن غيرته فقد تجرد من آدميته ولارتقت البهائم عليه درجة.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/social/0/125667/#ixzz5N1wdiNf0