يبتسم العيد في جميع الوجوه بلا تفريق، حينها تلتفت إليه جميعها؛ لا يتخلف منها أحد، فبعضها يبادله ابتسامة أجمل، بل ربما ترقص بين وجنتيه ضحكة هي أرق من ريحانة تهتز بين مروج خضراء، كيف لا وقد جمع أعواد السعادة من كل غصن، وصنع منها عشا يتمايل تيها ودلالا ونُعمى. كل قطعة من ملابسه وملابس أسرته تضجُّ بريقا، وتتوهج روعة، وتشير إلى (ماركة عالمية)، لتضيف إلى قاموس التفاخر ألفاظا جديدة، ينطقها بلكنة غربية مطعَّمة بفصوص التغنج واللثغة المصطنعة.
وقد تنسيه هذه البهجة الغامرة، والنعمة الفياضة، من فقد منابتها، ولم يعرف لها لونا ولا رائحة، وبل قد يطغيه تبختره، فيحتقر من لا يستطيع أن يركب مركبه، أو يكتسي حلته، ولو أن مدَّ يده بإسعاد واحد آخر لتضاعفت سعادته!!
وآخر يجامل العيد، فيرسم أمام عينيه النجلاوين ابتسامة صفراء، تنقبض فور انبثاقها، يهنئ الآخرين ليعيش معهم أحاسيسهم، حتى لا يكدرهم، بينما يطوي بين جنبيه نارا لا يعرف طعمها إلا مدمنو الحزن، أولئك الذين أصبحوا يتنفسون الاكتئاب والهم، حتى اعتادوه، ولم يتصوروا بأنهم يوما ما سيودعونه، ولذلك فإنهم لا يجدون للعيد لذة، تماما كمن يأكل كل يوم طعاما واحدا لا يرغبه، ولا حيلة له في تغييره، وقد حيل بينه وبين ما يشتهي، فلا حديث هناك عن طعوم أو لذائذ؛ ومن يك ذا فم مر مريض، يجد مرا به الماء الزلالا، فهل نتوقع منه غير ألا يرى سوى وجه واحد للعيد، وجه مزوَّرٍ غير حقيقي، لأنه صنع قناعا مخربشا بريشة همه، ووضعه على وجه عيده، فرآه عيده قبيحا، أو على الأقل مهموما مثله.
أما القسم الثالث فهم الذين يتوجعون من قدوم العيد، لأن صورته في مخيلاتهم مختلفة تماما عن صورته في مخيلات الطلقاء من كل ألوان الأَسْر، إنهم يرون شبحا مروِّعًا، جاء ليلوح لهم بثياب جديدة ليقض جرحا طريا لفقيد حبيب، أو ليذكرهم بأرحام طال فراقهم، ولم تعد صلتهم في قائمة ممكناتهم، وهم بين جدارن هم مغلق بإحكام على قلوبهم، أكثر من أجسادهم، وربما جاء ليعيد إليهم أملا كسيحا كسيرا، طريقه إما مغلقة أمام أعينهم، أو طويلة ممتدة امتداد الزمن المضروب عليهم!!
وحين نرى من يهرب من وجه العيد بسفر مفتعل، أو بالانزواء في الفراش، أو بعدم المشاركة في جوه المرِح، فقد نظن بأنه ضعيف القوى، لم يأخذ خطام نفسه بالصبر والقوة، ونتهمه بأنه غير اجتماعي، وبأنه يغرق في القليل من الماء، ونحن لا ندري ماذا لو عشنا مثل همه ماذا سنفعل؟
إن العيد فرحة ولعب ولهو مباح، وسرور بإتمام عبادة عظيمة، وفرصة لتبادل المشاعر والحب، وبداية لتأسيس علاقات ودية مع أصدقاء جدد، بل هو الفرصة الأكثر جدوى للتسامح وغسل القلوب من الأحقاد والخصومات، وبخاصة ما يقع بين الأرحام.
لكن العيد مثير للحزن بلا شك لكل من فقد فيه ما كان يتمتع به من حرية إذا أصبح سجينا، ونعمة إذا أضحى فقيرا، ووطن إذا غدا غريبا، وعزيز إذا بات فاقدا ثاكلا، ومن طبيعة العين أن تبحث عن المفقود في لحظة الفرحة، فإذا اكتمل شمل الأسرة على المائدة بحثت عن طفل شارد، أو شاب متابطئ، وإذا رأت جمال اللباس على الناس، تفقدت ما ارتدته من أسمال، وإذا كانت حبيسة العنابر تطلعت إلى الحرية.
وأنا أقلب عيني فيمن حرم من أهله ووطنه وحبيبه على امتداد عالمنا الإسلامي الذي تعاني عدد من شعوبه من الاحتلال والقهر والإذلال، أتذكر أصحاب النعم التي فقدوها في هذا العيد، فأتذكر المعتمد بن عباد وهو ينشد بصوت شجي: فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا. وكان عيدك باللذات معمورا. وكنت تحسب أن العيد مسعدةٌ. فساءك العيد في أغمات مأسورا. ترى بناتك في الأطمار جائعةً. في لبسهنّ رأيت الفقر مسطورا. معاشهنّ بُعيـد العـزّ ممتهـنٌ. يغزلن للناس لا يملكن قطميرا. برزن نحوك للتسليم خاشعةً. عيونهنّ فعاد القلب موتورا.
لا بأس من كسرة الفرح .. حين لا يجد الإنسان إلا هي.. فالقليل خير من الحرمان
!