إننا ما لم نكن ممن يعفون ويصفحون فلن نبلغ عتبة السلام الداخلي. فالعفو هو وسيلة تغيير إدراكاتنا والتخلص من مخاوفنا والشعور بالظلم والتأذي. وإننا بحاجة إلى تذكير أنفسنا باستمرار بأنّ الحب هو الحقيقة الوحيدة هناك. وإن أي شيء نعيه ولا يعكس الحب فهو إدراك خطأ.
إذن فإنّ العفو يمسي وسيلة لتصحيح إدراكاتنا الخطأ، فهو يسمح لنا بأن نرى فقط الحب في الآخرين وفي أنفسنا وليس شيئاً آخر. ومن خلال النسيان الاختياري وعبر خلع النظارة الماضوية المعتمة التي تجثم فوق الحاضر فإن بإمكاننا أن نشرع في معرفة أن حقيقة الحب موجودة إلى الأبد، وأننا يمكننا عيش السعادة من خلال الوعي بالحب فقط.
وبذا فإنّه يمسي العفو عملية محو وتجاوز مهما كان ما نعتقد أنّ الآخرين ربما قد فعلوه حيالنا وأيّاً كان ما نعتقد أننا اقترفناه بحقهم. وإننا متى حفلنا بالمظالم فإننا نحمل عقولنا على التغذي بالخوف ونمسي أسرى لتلك التشوهات.
لكننا إذا اعتبرنا أن وظيفتنا الوحيدة هي العفو وكنا على استعداد للاضطلاع به بشكل متسق صادق عبر توجيه عقولنا لأن تكون متسامحة فإننا سوف نجد أنفسنا متحررين ومحلقين منطلقين. ذلك أنّ التسامح يصحح إدراكنا الخطأ بأننا منفصلون عن بعضنا البعض ويسمح لنا بعيش روح الوحدة والتعاضد ببعضنا البعض.
إنّ التسامح كما هو معروف هنا يختلف عن الطريقة التي درج بها كلّ منا على فهمه.. إذ إنّه لا يعني افتراض وضعية معوجة معينة وتحملها أو السلوك المتسامح مع شخص لا نحبه، وإنما يعني التسامح أو العفو تصحيح إدراكنا الخطأ بأنّ الشخص الآخر قد أضرَّ بنا.
ويكون العقل غير المتسامح على عكس العقل المتسامح مشوشاً ومترعاً بالخوف. ولشد ما يقاسيه من هواجس وذكريات منغصة. ويكون مطمئناً إلى التأويل الذي يخلعه على إدراكاته للآخرين. كما أنّه يركن إلى تبرير غضبه وصحة حكمه الإداني.
أيضاً فإنّ العقل غير المتسامح يجمد عند رؤية الماضي والمستقبل شيئاً واحداً يستعصي على التغيير. وهو لا يريد أن يكون المستقبل مختلفاً عن الماضي. ويرى العقل غير المتسامح نفسه بريئاً، لكنه يرى الآخرين مذنبين. أيضاً فإنّه ينهض على الصراع وكونه على صواب، ويعتبر السلام الداخلي عدواً له. كما تجده يرى كلّ الأشياء منفصلة متشظية.
أما العقل المتسامح فإن لسان حاله يقول:
إنني حينما أرى شخصاً آخر بوصفه مذنباً فإنني أعزز إحساسي بالذنب وعدم الأهلية. ولا يمكنني مسامحة نفسي ما لم أكن مستعداً للعفو عن الآخرين. ولا يعنيني ما أعتقد أن امرأً اقترف شيئاً ما بحقي في الماضي أو ما أعتقد أني قد زللت فيه. لكنني يمكنني من خلال العفو فقط أن أتحرر من الإحساس بالذنب والخوف بشكل عام.
مثال:
تلقي القصة الشخصية التالية الضوء على بعض القواعد والمبادئ المتعلقة بالشعور بالضيق والظلم والعفو:
ذات صباح أحضرت السكرتيرة كومة هائلة من الفواتير وقد ذكرتني أن دخلي انخفض نظراً للقدر المتزايد من الوقت الذي أنفقه في العمل بلا مقابل. وقالت أن هنالك رجلاً استدان بنحو خمسمائة دولار لقاء خدمات قدمت لكريمته العام المنصرم. وذكرتني بمدى سرعة استجابتها للعمل معي. ثمّ قالت أنها كانت تجد عنتاً في إرسال الفاتورة واقترحتْ أن أرسلها إلى وكالة خاصّة.
وأخبرتها أنني لم أقم أبداً بإرسال فاتورة إلى وكالة خاصة ولا أخطط للقيام بذلك الآن، لكنني سأكرس بعض التفكير في المسألة. وأثناء فحصي للفواتير غير المدفوعة رحت أستشعر أن ما اعتقدته كان غضباً مبرراً، وشعرت أنني مصاب بضيق مشروع. وعلى أيّة حال فقد قمت بما هو واجب عليَّ من جانبي وقد استفاد هو وكريمته من العمل معي.
لقد عرفت أنّ الأب كان يمكنه تحمل دفع النفقات، وبدأت أفكر.. وقررت الاتصال به عصر ذلك اليوم. خلال تأملي في درسي اليومي في “سكة الإرادة” الذي كان “العفو هو مفتاح السعادة” إذ بصورة ذلك الرجل الذي استدان تقفز أمام ناظري. وسمعت صوتاً من داخلي يقول: عليَّ أن أبرح الماضي وتعلقي بالمال. وكان عليَّ أن أمارس العفو وأن أقوي علاقتي به.
لذلك فقد هاتفته وحكيت له عن تفكيري وقراري بعد إرسال أيّة فواتير أخرى. وحكيت له عن غضبي السابق وقراري بطرحه في جب النسيان. وقلت أنني اتصلت به لتقوية علاقتنا وأنّ النقود لم تعد قضية البتة.
وقد استغرقته إطراقة طويلة قبل أن يقول: حسن، إذا لم أسدد لك فاتورتك فلن يسددها أحد لك. وقلت أنني اعتقدت بأهمية نسيان موضوع النقود والغضب الذي ألمَّ بي حياله بشأن الفاتورة. وأخبرته أنني كنت أحرر نفسي من التفكير في أنّه سبَّب لي ضرراً بأيّة حال.
ويولد صمت جديد ويصبح صوته دافئاً وحانياً.. وقد شكرني للاتصال. ولشد ما دهشت إذ أخبرني بأنّه سوف يرسل الشيك الأسبوع التالي (حيث فعل بالفعل).
وخلال الساعة التالية رأيت سيدة هي أم لفتاة ذات إحدى عشرة سنة وكانت تعاني من سرطان في العمود الفقري وكانت عضواً بإحدى مجموعاتنا بالمركز. وكانت الأُم تتلقى مساعدة عامة، ولكن نظراً لأمور كثيرة فإنّها لم تستطع توفير المال عبر هذا الطريق أو من خلال أيّة قنوات أخرى. وقد تم إصلاح سيارتها التي كانت تنتظرها في الكراج، لكنها لم يمكنها دفع سبعين دولاراً لسداد فاتورة الإصلاح.
وقد فاتتها مواعيد هامة بسبب مشكلة السيارة وهي خاصة بالعلاج الكيماوي لابنتها. وقد حدثني صوتي الداخلي قائلاً “اعطها سبعين دولاراً لما وجدت لتوك مالاً اعتقدت أنّه لم يكن لديك”.
وقد ارتويت بسلام داخلي حينما فعلت ذلك. ولا أزال متأثراً بمدى سرعة شعوري بالسلام الداخلي حينما نحيت ارتباطي بالاعتقاد الماضي بأن هنالك شخصاً ما مذنباً وشخصاً آخر بريئاً.
واليوم فإنني أختار التخلص من إدراكاتي الخطأ السابقة عن نفسي وعن الآخرين. وبدلاً من ذلك فإنني سأرتبط بشكل شخصي وأقول: إنني أراك وأرى نفسي فقط في ضوء العفو الحق.►
المصدر: كتاب هندسة الجودة النفسية/ سكة الإرادة.. الحب يعني التحرر من الخوف